تحقيق/ غادة اسعد

في الحروب العدوانية الإسرائيلية على الفلسطينيين أو في حروبها ضد العالم العربي لم تتعلّم إسرائيل درس "الأخلاقيات"، وتقديم التنازلات لصالح شعوبٍ هي ذاتها، "إسرائيل"، التي احتلَّتها، وسرقت خيراتها، وسلبت أرضها، ونهبت ممتلكاتها. واليوم تبدو إسرائيل أكثر شراسةً مما سبق مِن تاريخها الموحِش، وهي اليوم أسيرة الأسلحة والطيران الحربي والدبابات، لكنها "بوحشيتها"، تغتال الطفولة وتتباكى أمام شركائها في اغتصاب الأرض الفلسطينية.

هذه هي إسرائيل، تسوّق نفسها إعلاميًا أمام أصدقائها من العالم الغربي، وتحاوِل أن تظهر كالحِمل الوديع، الـمُعتدَى عليه، لكنها بالمقابل تهتك عِرض "غزة" وتقتل الكبار والصغار دون رحمة، وتقترف أبشع المجازر وتدوس مبادئ حقوق الإنسان. أمَّا في الضفة الغربية وفي القدس، فإنها تخشى انتفاضة جبّارة يخوضها الشعب الرازح تحت الاحتلال، فتشدّد محاصرته وتعتقل أبناءه وتستوطِن في أرضِه حارمةً إياه من العمل والحياة الكريمة، ثم يخرج علينا زعماؤها متسائلين عَن سبب تنفيذِ عملياتٍ (فردية) في بعض المناطق!

وفي الداخل الفلسطيني، فإنّ المعاناة تبدو أصعب على أكثر مِن صعيد، فمِن جهة يحملُ الفلسطيني مضطرًا "الهوية الإسرائيلية"، التي تُلاحقه كل حياته بشعورٍ بالعار، ومن جهة ثانية لا تخوّله هذه الهوية الحصول على أي حقوق بخلاف ما يفرضه القانون الدولي وما تحصل عليه الشعوب الأصلانية الأخرى التي تعيش في ظل دولة تحكمها.

ولأن إسرائيل اليوم أصبحت أكثر عُنصرية وتطرفًا، فإنّ العرب فيها باتوا مشروع قنبلة موقوتة، لن تحتمل الضغط أكثر، ويزيد على ذلك التصريحات العنصرية الخطيرة التي تصدر عن قادة إسرائيليين، فمن جِهة تشدد الخِناق على المتضامنين مع غزة وأهلها في العدوان عليها، ثم تعتقل مئات الشبان ليخرُج الواحد فيهم مع شهادة مؤكّدة بأنّ هذه الدولة "تُقارِب النازية" في أخلاقياتها.

 

مقاطعة التجارة العربية.. بداية النهاية

ردًا على دعوات اليمين المتطرّف، وخصوصًا وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان (رئيس حزب إسرائيل بيتنا)، التي تمثّل رأي السياسيين على الأقل، بمقاطعة المحال التجارية العربية، كعقابٍ جماعي على الأحداث التي شهدها الداخل الفلسطيني من تظاهرات وتضامن مع غزة، وتنديدًا بمقتل الفتى المقدسي محمد أبو خضير، علّق النائب في الكنيست الإسرائيلي رئيس كتلة القائمة الموحدة والعربية للتغيير أحمد الطيبي، قائلاً: "ليبرمان نادى بمقاطعة المحلات التجارية العربية بسبب الاضراب والحداد وكتبها بالعبرية، ولكني اعتقد انها كانت لتبدو اكثر أصالة لو كُتِبت بالألمانية أو البولندية، إذ لا يملك هذا الفاشي حِسًا تجاه واجبنا الإنساني والوطني ونحنُ نتألم بقتل أهلنا وأبنائنا وأطفالنا.. يذكرني هذا العُنصري بالمقاطعة الألمانية لليهود عام 1933، التي بادر إليها جوزف غوبلز وزير الإعلام النازي آنذاك، لنفس السبب!".

 

تحريض يهودي لمقاطعة المتاجر العربية

تصريحات ليبرمان لم تكن بداية ولن تكون نهاية السُّم الذي يبثه العنصريون الإسرائيليون ويسوّقونه عبر مواقع التواصل الاجتماعي مما يزيد الاحتقان المستعِر أصلاً، إضافةً إلى الحركات اليمينية المتطرّفة التي تطالب بمقاطعة المنتجات العربية وطرد العمال العرب الذين يعملون لدى مُشغلين يهودًا. وهذه الحركة تنشط في مستوطنة "نتسيرت عيليت"، (جزءٌ مِن الناصرة المعروفة، تمّ سلبها بعد سنواتٍ قليلة من احتلال فلسطين العام 1948، وأُسكن فيها يهود مستوطنون، وبقيت الأحياء العربية فيها قائمة).

أما أصحاب المحال التجارية العرب وخاصة في منطقة "الكراجات" بالمنطقة الصناعية (نتسيرت عليت (سُرق الاسم) ويعني الناصرة العليا)، فقد عبّروا عن شعورهم الواضح بالعنصرية الممثّلة بمقاطعة محالهم التجارية.

وفي المقابل ردّ عدد من الشباب في الناصرة والمنطقة بإعلانهم مقاطعتهم الاجتماعية والاقتصادية لـ"نتسيرت عليت" والعفولة  –  البلدتان يهوديتان -  وخير تعبير عن هذا ما كتبَه شاب من الناصرة على صفحته في "الفيسبوك"، حيثُ قال: "أريد رد الصاع صاعين على مقاطعتهم لنا، واجبي كعربي يحتّم علي الشراء فقط من الناصرة لتقوية تجارتها ومحلاتها التي لا تقل بجودتها عن المحال التجارية الإسرائيلية".

 

الردّ على المقاطعة اليهودية بتعزيز الصناعة المحلية

في تصريحٍ خاص أشار مدير مركز مساواة (مؤسسة أهلية مقرها في مدينة حيفا) جعفر فرح إلى أنّ "مواجهة المقاطعة التي طالب بها ليبرمان أخذت وقعًا ليس بطفيف، إذ أبرزت هذه المقاطعة أنّ الاقتصاد المحلي بحاجة إلى دعمٍ كبير، وخاصةً في السلطات المحلية العربية، التي لمسَت عن قُرب الحاجة إلى تعزيز الاقتصاد المحلي، خاصةً أنها مجموعة مهمة وتدير أكبر قاعدة اقتصادية، وكان الأجدر بالسلطات المحلية أن تقوم بالتنسيق فيما بينها، لتحافظ على وضعها الاقتصادي".

وأشارَ فرح إلى أهمية التنظيم الاقتصادي وطريقة الاجتذاب الناجحة التي تعتمد على الاستثمار العربي في مدينة عكا مثلاً، والتي ينشغل أصحاب المصالح فيها بتعزيز التجارة والسياحة في المنطقة، وهذه المعرفة نتجت عن تداعيات اكتوبر 2000، وقد نجح التنظيم بين التجار في المشاركة فيما بينهم مِن أجل الخروج مِن الأزمة الاقتصادية.

وأكدّ فرح "أن هناك قطاعين يعانيان أزمة جدية في المجتمع العربي، القطاع الأول الفقراء: وهم شريحة مهمّة تحتاج دعمًا ماديًا واجتماعيًا، وتصل نسبتهم إلى نحو 50%، منهم الشباب الذين لم يتمكنوا من التأقلم في سوق العمل، أما الشريحة الثانية فهي فئة الشباب الذين شاركوا بالمظاهرات وكلّفتهم عملية الاعتقالات تعيين محامين بمبالغ عالية وصلت إلى (5 آلاف و10 آلاف شيكل)، في المرحلة الحالية، علمًا أنّه بقي عدد من المعتقلين الذين ينتظرون المحاكمة، ويُعتقَد أنه سيتم تشكيل لجنة خاصة تعمل على إقامة صندوق مالي يعود مدخوله إلى عائلات المعتقلين وأبنائهم".

ولفت فرح إلى أن الاقتصاد في العفولة ومعظم البلدات اليهودية انخفض إلى 30% من الناتج الأصلي، وأوصى بضرورة تدخّل النواب العرب، والمطالبة باستفادة المجتمع العربي من ميزانية 2015، إضافة إلى ضرورة مواجهة التحريض العنصري ضد العمال العرب، علمًا أنّ مركز مساواة، ساعد متضررين في قضايا عينية، بسبب تعنُت أصحاب المصالح اليهودية وعنصريتهم.

 

يجب اللجوء للقانون لمحاكمة المحرّضين

في تساؤلٍ حول أهمية اعتماد الجانب القانوني ردًا على تصريحات عنصرية، أو ملاحقات طالت موظفين وعمالاً عرباً، على خلفية ما نُشر في صفحات الفيسبوك ومواقع التواصل الاجتماعي من استنكار للسياسة والعدوان الاسرائيلي، قالت المحامية عبير بكر: "نستطيع أن نختار المسار القانوني الذي نراه مناسبًا لمواجهة التحريض، لكن في مسألة المقاطعة، يجب الأخذ بعين الاعتبار ظروفنا وحالاتنا العينية، نعم أنا مع الذهاب إلى المحكمة، واتخاذ المقاطعة أسلوبًا للتعبير عن الرأي، لكن دون الانزلاق إلى تصريحاتٍ عنصرية تؤذي صاحبها، والمقاطعة أسلوب شرعي يستطيع أن يستعمله أي شخص يشعر بأنه مغبون أو مُحرّض ضده".

وترى المحامية بكر أنّ المقاطعة هي الطريقة الوحيدة التي تتجاوز المحاكم والبرلمان بطرق اعتيادية، معلّقةً "من خلال هذه الوسيلة أشعر أنني أوصِل رسالة مهمة ومؤثّرة".

أما بخصوص التحريض على المقاطعة وفق مقولة ليبرمان فتقول بكر: "إنّ مطالبته بالمقاطعة هي مسألة متعارف عليها، لا يُحاسَب عليها، لكن يمكن أن تتم مساءلته، وجره إلى المحكمة، كما أنّ هناك مُخاطَرة، أن نمنع المقاطعة، فلا نمتلك نحنُ أيضًا حق "المقاطعة"، بالنهاية يحق لنا المحاسبة والذهاب إلى المحكمة بكل ما يتعلق بالتحريض، والمحكمة ترى مدى المس الذي أصاب المتضررين، وعليه تُصدر قرارها".

وأشارت إلى أنّ الملاحقة التي طالت الشبان العرب بسبب التحريض والعنصرية، استنزفت أيضًا وقتهم وقواهم، وأدت لفصلهم من عملهم، وتعرّضهم لضغوطات نفسية.

 

مقاطعة المصالح اليهودية يعزّز المصالح العربية

يلفت الباحث إمطانس شحادة إلى أن المجتمع الفلسطيني في الداخل يشكّل 21% من مجموع سكان إسرائيل، ويضيف "لكنّ السوق العربي سوق مُستهِلك بصورة كبيرة، ولهذا فإنّ السوق اليهودي يتعرّض للضرر بسبب مقاطعة العرب، لا سيما أن العرب لا يملكون بديلاً عن كل المنتجات اليهودية الإسرائيلية، ويستوردون غالبية استهلاكهم اليومي من السوق الإسرائيلية".

ويوضّح الباحث شحادة انّ "معدل استهلاك الأسرة العربية يصل إلى 12 ألف شيكل شهريًا، في حين أن الحديث يدور عن 310 آلاف عائلة عربية ما يعني أن العائلات العربية تستهلك ما يعادل 4 مليار شيكل شهريًا أو 50 مليار شيكل سنويًا. ووفق اعتراف حكومي واضح وفي أكثر من مناسبة أكّدوا أنه لا يمكن رفع الناتج المحلي الإسرائيلي الذي بلغ ذروته حاليًا، بمعدل 30 ألف دولار للفرد، دون تطوير الاقتصاد العربي".

وأشار شحادة إلى أنّ المقاطعة تعني الرأسمال الإسرائيلي، والشركات الكبرى، مؤكدًا أنّ المقاطعة قيمة أخلاقية خاصة للمنتجات الداعمة للاحتلال، وأوضح "نحن هنا لا نتحدث عن رد فعل إنما عن مشروع سياسي كامل، لا ينادي بعصيان مدني، إنما ينادي بالضغط على أصحاب رؤوس الأموال وبالتالي الضغط على الحكومة لتغيير سياسات الإفقار والعمل لتحقيق المساواة ودعم الاقتصاد العربي المحلي، خاصة أن أدوات نضالية مماثلة أثبتت نجاعتها عالميًا".

وفي نهاية حديثه أشار إلى أنّ إسرائيل خسرت أكثر من 10 مليارات شيكل أي ما يعادل 150-200 مليون شيكل يوميًا على أقل تقدير.

 

الإشكالية هي في مجال الهايتك والموظفين في الشركات الحكومية

كشف المختص الاقتصادي د. رمزي حلبي أن هناك اربعة مسائل يجب أخذها بالاعتبار عندما نُقرر المقاطعة، وهي: البرغماتية الإقتصادية؛ والتطور التكنولوجي وإيجاد ما يسمى بحالة الـ"Global economy" (الاقتصاد العالمي)؛ ونجاعة المقاطعة ومدى تحقيقها أهدافها؛ ومدى خدمة النزاع الاقتصادي للموقف السياسي. ونوه د. حلبي إلى أنّ "هناك مشاريع قد تُعرقل المقاطعة، وهي أنّ لدينا خبراء عرباً في الاقتصاد ويحتاجون إلى العمل في مجالهم لذا عليهم العمل في بناء مشاريع للاستفادة من الفُرص الممكِنة للعمل، في تطوير ذاتهم، إلى جانب الحاجة إلى دمج العمال العرب في أسواق العمل الإسرائيلي مثل "تسوفن"، أي عالم الهايتك (التكنولوجيا المتطورة).

كما أشار إلى أنّ الاقتصاد أمرٌ هام، في أي ملف مفاوضات سواء أكان سياسيًا أو اجتماعيًا، ومفضلاً وضعه على رأس الأجندة كي يستفيد الفلسطينيون في الداخل وفي الضفة والقطاع أيضًا مِن فرصِ حياةٍ أفضل، وهذا قد يبرز ضرورة تحسين أجور العمال العرب الذي يصل إلى 60%، كحدٍ أقصى مقابل رواتب العمال اليهود التي تصل إلى الـ100%، ونوّه د. حلبي إلى وجود 92 الف موظّف في الشركات الحكومية الإسرائيلية سيتعرضون للخطر فهل مِن بديلٍ لهم؟!

 

تحويل المقاطعة الاقتصادية لفرصة تشغيل للعرب

أكدّ النائب في الكنيست والمختص في الشأن الاقتصادي د. باسل غطّاس أنّ "المقاطعة تحتاج إلى دراسة ووضع أفكار جديّة وعملية تعتمد على البلديات والسلطات المحلية العربية، والمجتمع العربي المحلي ومؤسسات المجتمع المدني، ليكون في ذلك خطوات ملموسة لدعم الاقتصاد العربي المحلي".

وشدّد غطاس على ضرورة سعي الفلسطينيين للبحث عن طريقة لتطوير اقتصادهم والاستثمار في الصناعة والهايتك، وليس فقط في المجال الغذائي كما يجري اليوم، حتى يُحقق العرب الاكتفاء الذاتي بصورة أفضل مما هي عليه الآن منوّهًا لأهمية تسهيل الشروط للحصول على قروضٍ بفائدة منخفضة لتحسين المصالح العربية وبناء استراتيجية اقتصادية مؤسسة وقوية.

المطلوب تركيز المشتريات من المحلات العربية في البلدات العربية

إذًا ردًا على مطالبة ليبرمان بمقاطعة الاقتصاد العربي، تأتي الحاجة إلى فرض موقف أخلاقي وطني، لكن هذا لا يعني إنكار الاستفادة الإسرائيلية، إذ لا يوجد منتجات محلية بديلة ولا يوجد صناعات عربية يمكن مقارنتها بالإسرائيلية، ما يُصعّب عملية مقاطعة البضائع والمنتجات الإسرائيلية ما لم يتوفر  بديل عربي أو استيراد عربي. مقابل ذلك، يجب تعزيز عملية الشراء من المتاجر والمحلات العربية في بلداتنا العربية وربما أيضًا شراء منتجات صناعة فلسطينية لدعم الاقتصاد الفلسطيني والتكامل بين اقتصاد الداخل والاقتصاد الفلسطيني في الضفة الغربية، وكذلك تنشيط الترفيه في البلاد العربية ودعم السياحة المحلية العربية، وتشجيع العرب على التكافل والتضامن الاجتماعي من خلال التسوق في الأسواق المحلية العربية، إلى جانب بناء المؤسسات الوطنية القادرة على تعزيز السلوك الجماعي.