خاص مجلة القدس- غزة / كتبت منال خميس :

"الواحد يهاجر احسنلو واشرفلو، يروح يتغرّب برا بلده أحسن ما يكون غريب في بلده، صح مرة قلتلك إنها كل أحلامي تحطّمت على باب معبر رفح؟ أنا كنت محضّر كل أوراقي وأغراضي ونويت السفر، لكن تسكّر المعبر"، قالها الشاب ثائر الغصين، معلّلاً سبب رغبته في الهجرة بسخرية وحزن في آن واحد "مشان الحمد لله الشغل عنا بغزة مرمي ع الطرقات والدراسة الجامعية متوفرة بالمجان، أمن وأمان، والمواطن مبسوط ع الآخر، بياخد كل شهر راتب وهو قاعد بالبيت".

 

ثائر الذي يعمل في" استراحة" على شاطئ بحر غزة، يتقاضى راتبا شهرياً لا يتجاوز (600 شيكل) أي حوالي (180 دولار) ويعيل أُسرة مكوّنة من 8 أفراد، إضافة إلى نفسه. لم يستطع أن يكمل دراسته في برنامج الدبلوم بجامعة الأزهر بسبب ارتفاع تكاليف الدراسة واحتياج عائلته لكل شيكل من دخله. وعن موقفه من الهجرة يقول: "أنا من المؤيّدين وبشدة لموضوع الهجرة، وحتى وإن توفّرت لي فرصة عمل جيدة بغزة، فسيبقى الموضوع في ذهني ربما محاولةً للهرب من واقع لا أمل فيه".

 

معايير توظيف انتقائية

في قطاع غزة يقضي أغلب الناس أيامهم متنقلّين ما بين زحمة احتياجاتهم اليوميّة، وتوترات الوضع الأمني مع إسرائيل من جهة ومع مصر من جهة أخرى، ومراقبة جدول الكهرباء، والثرثرات السياسية، وانتظار إغلاق أو فتح معبر رفح، جميعهم يدورون في دائرة يومية مغلقة لا تتوقّف عن الدوران، يغرقون في تفاصيل التفاصيل، ولعلّهم يفضلون ذلك أكثر من محاولة الغرق في مناقشة مستقبل قضاياهم المجتمعية الخطيرة وعلى رأسها حاضر ومستقبل أبنائهم، فهذه العائلات تدرك جيّدًا أنه لا حول لها ولا قوة، ولكن الأمر يحتاج إلى وقفة تأمّل طويلة من قِبَل المسؤولين وصُنّاع القرار لواقع الشباب المرير، كي لا نهديهم لقمة سائغة للمنافي، حيث أن موضوع الهجرة لا يكاد يغادر تفكيرهم ولا يتورّعون عن مناقشته وطرحه سراً وعلانية، فهم يبحثون عن "حياة تستحق الحياة" بحسب ما قال أحدهم للـ"قدس". فهنا لا زواج بسبب غلاء المهور، ولا مساكن لارتفاع تكلفة بناء السكن، ولارتفاع نفقات المعيشة، فقر وجوع وبطالة ومستقبل غائم ويأس يضرب أطنابه في مساحة لا تتجاوز الـ360 كيلومتر مربع.

وتجد يسرا الخيري، وهي مذيعة ومقدمة برامج في قناة "هنا القدس"، عذراً للشباب في سعيهم للهجرة، وتوضح "مما لاشك فيه أن واقع الشباب محبط ومثبط، نحن نتحدث عن نسب بطالة مرتفعة جدًا يتجاوز أدناها الـ35% في قطاع غزة، وهناك نسبة تتحدّث عن 70% من البطالة بين الشباب الخريجين وهي بازدياد. وأنا شخصيًا تخرّجت منذُ سنة ونصف السنة وكنت الثانية على الدفعة، وما زلت أعمل تطوّعًا ودون أجر".

 وتضيف الخيري: "للأسف الشباب يئسوا من الحصول على وظيفة دائمة، وأصبح حلمهم وهدفهم الحصول على وظيفة في مشروع مؤقت، أو ما يُسمّى بمشاريع البطالة، وهذا شيء معيب، وجريمة تمارَس بحق آلاف الخريجين الشباب. ومن خلال تواصلي مع بعض الشباب والفتيات الذين تخرّجوا منذُ سنوات في كليات الطب، والتخصصات الأخرى- وهم أوائل دفعاتهم- علمتُ أنهم لم يجدوا حتى الآن فرصة عمل فأصبحوا لا يفكرون إلا بالهجرة مثلهم مثل غيرهم".

وتضيف الخيري: "الإشكالية تكمن في أن معايير التوظيف في مشاريع التشغيل المؤقت هي معايير انتقائية حزبية من قِبَل حكومة حماس، وليس هناك معيار للكفاءة أو الشهادة أو الخبرة. فأحد الزملاء تقدّم لإحدى الوظائف فطلبوا منه تزكية من أقرب مسجد في المحيط الذي يسكن فيه، وهذا الشيء غير منطقي بالنسبة لخريج يريد أن يبدأ حياته ويكوّن مستقبله".

وأشارت الخيري إلى أن أعلى نسب البطالة موجودة لدى الشباب مشيرةً إلى أن الانقسام يشكّل سببًا رئيسًا في تحجيم فرص العمل، إلى جانب عدم دراسة الجامعات في قطاع غزة لاحتياجات سوق العمل، داعيةً الجامعات لدراسة طبيعة السوق وإدخال التخصصات المهنية إلى برامجها، ولافتةً إلى ضرورة إغلاق بعض الكليات التي تدرّس تخصصات لا تندرج ضمن الوظائف المتوفّرة.

واستطردت الخيري "البطالة منتشرة بين الجميع، وللاحتلال يد طويلة بهذا الاتجاه، ولكنه ليس الشماعة التي نعلّق عليها سوء الأمور، فالأسوأ منه سوء الإدارة من قِبَل حكومة حماس وتعطيلها للإمكانيات الشبابية، إذ لا يُوظَّف إلا ابن الحزب وبتزكية من المساجد، بحيثُ أصبح بعض الشباب لا يصلي إلا للحصول على تزكية لوظيفة مما أدّى إلى خلل في السلوك أيضًا".

وعلى الرغم من سوء حال وضعها الوظيفي، وعدم تثبّتها في وظيفتها الحالية، إلا أن الخيري أكدت أنها لا يمكن أن تهاجر، لسبب "وطني، عاطفي، إنساني"، لافتةً إلى أنها تعذُر الشباب وتجد لهم مبررًا منطقياً، وأضافت "أنا ضد الهجرة وتفريغ البلد، ولكنني أحمّل المسؤولية للقيادات السياسية، التي عليها أن تجعل الشباب من أولى أولوياتها، وان تستمعَ لهم، لأن الشباب قنبلة موقوتة إن انفجرت ستنفجر بوجه الجميع".

 

قلة فرص العمل وفقدان مقومات الحياة

كان جهاز الإحصاء الفلسطيني قد أوضح في بيان وصل "القدس" نسخة عنه، أن معدل البطالة في الربع الرابع من العام 2013 بلغ نحو 39% في قطاع غزة وحوالي 18% في الضفة الغربية، وأن عدد العاطلين عن العمل في القطاع ارتفع إلى حوالي 160 ألف شخص في غزة، بينما انخفض في الضفة إلى 142 ألفًا.

ولم يشر البيان إلى سبب ارتفاع نسبة البطالة في قطاع غزة - الذي تسيطر عليه حركة حماس منذ عام 2007 - وربما يكون تدمير مصر للأنفاق المستخدَمة لتهريب البضائع المختلفة في الفترة الأخيرة عاملاً في ذلك. وأشار التقرير إلى أن قطاع غزة من أكثر المناطق في العالم التي ترتفع فيها معدلات البطالة إذ تصل إلى 45%، وتمثّل المرأة ما يصل إلى نصف العاطلين عن العمل.

وفي هذا السياق يقول مدير مكتب الإغاثة الإسلامية بفلسطين منيب أبو غزالة: "لا تكمن المشكلة بغزة في الكفاءة التعليمية لدى العاملين، فحينما نقوم بتوظيف خريجين جدد في أحد مشاريعنا نجد لديهم كفاءة وطاقة عالية وتفانيًا في العمل، ولكن المشكلة هي قلة الفرص وندرتها أمام الشباب الخريجين".

وللإعلامية داليا العفيفي قصة أخرى، فقد غادرت قطاع غزة إلى جمهورية مصر العربية لاستكمال دراستها العليا، وحول عدم رغبتها بالعودة تقول: "مؤخَّرًا هاجر عدد كبير من شباب وشابات قطاع غزة إلى الخارج لأسباب متعددة منها غياب فرصة عمل، أو الزواج، أو الدراسة، وغيرها، أي أننا جميعًا خرجنا لأن الواقع في قطاع غزة مرير للغاية ولأننا شعرنا بأننا أحياء أموات أو كأن القطاع سجن محكم على أهله، لكني كنتُ أرفض أن أغيّر جنسيتي وأن أتنازل عن فلسطينيتي لأجل الخروج من الوطن لأنني على يقين أنني سأعود إليها عاجلاً أم آجلاً".

وتابعت العفيفي "قد يصبر الإنسان على لقمة عيشه ولكنه من المستحيل أن يعيش مكبّل الأيادي عاجزًا عن المطالبة حتى بحقه أو التفوُّه بكلمة حق يُنصِف بها غيره، حياته مهددة بالخطر في أية لحظة. فغزة التي كانت الأم الحنون أصبحت المقبرة الكبرى للكل المتواجد على أرضها، وإني على يقين تام أن العدد الهائل الذي ترك الوطن من الشباب والشابات في هذه السنوات كفيل بأن يكون بعدد من هاجروا في عام 48..للحظة أشعر أننا عدنا إلى هذا الزمن باختلاف بعض الأمور".

وحمّلت العفيفي المسؤولية إلى حركة حماس أولاً لسياسيتها الانتقائية في التوظيف، وأيضًا إلى مؤسسات حقوق الإنسان التي أصبحت "مجرد واجهة فقط لا غير بحيثُ اقتصر عملها على الأرشفة، وباتت تخشى الدفاع عن المواطن المنكوب".

وللعامل النفسي دور أيضًا

وإلى جانب ما سبق ذكره رأى رئيس تحرير صحيفة النهار الصحافي هاني الآغا أن "شعور الشباب بأن مستقبلهم مهدّد بالخطر وأن طاقاتهم بالبقاء في غزة تُهدر دون فائدة، يشكّل عامل دفع لهم للبحث عن الهجرة التي تصبح بالنسبة لهم بحثًا عن إبداعاتهم وعن طاقتهم وطموحاتهم التي باتت معدومة هنا بكافة المعايير".

وأضاف الآغا "الشاب هنا يبحث عن ذاته، وشعوره أن لا قيمة هنا له، ولا قيمة لأي شي يقدّمه، يُدمّره، لأن ما سيقدمه سيصطدم بالواقع المرير، الواقع الحزبي والفصائلي في غزة ذات اللون الواحد، للتُّجار، للساسة، للوظائف، ومن يريد أن يكون له نصيب قليل فعليه إبداء التقارب والتوافق مع واقع الحال، إضافة لجانب الحريات الشخصية التي باتت مراقبة بكل تفاصيلها فهي حريات تحت الأسنة والحراب، فشعور الشاب انه هنا في سجن كبير وأن كلاً منهم في سجن صغير له وحدة جعله يسعى جاهدًا للخروج من غزة بأي ثمن، وفي ذهنه أنه في حال خروجه تصبح غزة بالنسبة له مجرد مزار للأقرباء بين الفينة والأخرى".

وتابع الأغا حديثه للـ"قدس": "لو عدنا لسبع سنوات سابقة، وقت تخرج الشباب من الجامعة لوجدنا جيلاً بأكمله تراكم من طاقات هائلة هذه الفترة مابين العشرين إلى الثلاثين، وهي فترة عنفوان الشباب، فترة الإبداع والتمكين للمستقبل، هذه بنظر جيل الشباب ضاعت في الهواء ولا احد يُنتظر منه أن يستغل تلك الطاقات، وفي المقابل فإنهم حين يجلسون أمام صفحات الانترنت ليشاهدوا كيفية حياة الشباب في البلدان الأخرى وكيف يتم استغلال طاقتهم وكيف تتم تنميتها وتحديدًا في بلاد الغرب، يبدؤون بالمقارنات بين طاقاتهم وإبداعاتهم المسلوبة، فيحزنون لأن إمكاناتهم تفوق بكثير تلك التي يرونها، ويسعون للهجرة خارج فلسطين وإن لم يفلحوا في ذلك، يسعون جاهدين للسفر إلى الضفة الغربية، فمن وجهة نظرهم السفر للضفة هجرة طالما انه خارج غزة".

ولا يجد الآغا حلاً قريباً لما يحدث، فيقول: "للأسف هذا هو الواقع لأنه مرتبط بالواقع السياسي المهيمن بشكل كبير على مستقبل الشباب وان انتظر الشباب إلى حين الاستقرار السياسي وانتهاء الانقسام برأيي سيلحق بالجيل أجيال أخرى".

وينصح الآغا الشباب بالبحث عن مستقبلهم بأي شكل حتى وان كان خارج البلاد، لا تشجيعًا على الهجرة وإنما حرصًا على مستقبلهم ولأن بقاءهم يعني "إما الثورة ورفض كل ما هو قائم وإما طمس أنفسهم والى الأبد" على حد تعبيره.

ومن جهته قال الدكتور رمزي القرم المتخصّص في التدريب الرياضي للـ"قدس": "على الرغم من أن غزة لا يوجد فيها أية مقومات للحياة الكريمة، وخصوصاً للشباب، إلا أنني لم أفكر بالمطلق أن أهاجر وأترك هذه البقعة من الأرض"، ويستدرك "ولكن الشباب محقون بمسعاهم للهجرة بحثًا عن المستقبل"، ويردف "لو فكّرتي تسافري لعلاج أو لدراسة أو لأي عمل لا تستطيعين فالمعابر والحدود مغلقة، وهذا بحد ذاته عذاب، الحرية، لقمة العيش، الحد الأدنى لحياة شبه كريمة كلها غير موجودة، والناس في غزة هم موظفو السلطة والوكالة والبلديات، والباقي شؤون اجتماعية وبطالة، فمن الطبيعي لأي شاب يتحصّل على فرصة أن يسافر أو يهاجر، ليخرج من هذا الواقع المسحوق".

ويختم د. القرم بالقول: على جميع أصحاب القرارات الحاسمة تحمُّل مسؤولياتهم.. يكفينا انقسامًا ويكفينا تشهيرًا وتكفيرًا، شبابنا أساس بنيان أوطاننا، ارحموهم بوحدتكم، قدموا لهم شيء يغنيهم عن التفكير بترك وطنهم والذهاب بعيداً من أجل لقمة عيشهم التي افتقدوها بانقسامكم".

 

الإغراءات تدفع بقرار الهجرة قدمًا

وبحسب رأي الأخصائية الاجتماعية أ.ماجدة أبو عامر فإن هجرة الشباب الفلسطيني  تنامت في الفترة الأخيرة إثر عدة عوامل منها سبق ذكره مضافًا إليها رداءة الوضع الاجتماعي والاقتصادي بسبب الحصار وارتفاع الأسعار، ومحاولة الاحتلال الإسرائيلي نشر فكرة الهجرة بين الشباب الفلسطيني لإفراغ الوطن من محتواه، علاوةً على الإغراءات والامتيازات التي تقدمها البلدان الأخرى لهؤلاء الشباب، إلى جانب رغبة بعض الشباب في الحصول على شهادة عُليا من الصعب الحصول عليها داخل بلدهم، مؤكّدةً أن المجتمع الفلسطيني يخسر كثيراً بهجرة طاقات الشباب، التي من المفترض أن تساهم في بنائه وتنميته.

وتضيف أبو عامر "إن الشباب مطالبون بتجاوز هذه المرحلة الصعبة والتمسُّك بأرضهم والعمل على رفعة هذا الوطن الذي يحتاج إلى سواعدهم وعقولهم بكل المستويات. وعلى أصحاب القرار أن يعملوا لأجل فئة الشباب ويشعروهم بالأمن والأمان والاستقرار، ويوفّروا فرص عمل مناسبة لهم لمساعدتهم على الصمود والبقاء داخل الوطن"، متوجّهةً كذلك للأهل بالدعوة لاحتواء أبنائهم وعدم تشجيعهم على الهجرة.

وبين اختلاف الآراء ما بين مؤيّد ومعارض، تبقى مشكلة الهجرة، حلمًا يسعى إليه الشباب ويدغدغ أحلامهم للخروج من قطاع غزة، بإلحاح قائم دونما حل، مما يشكل مفارقة مؤلمة ومزعجة أن يسعى الشباب الفلسطيني بخصوصية وضعه في وطن محتل للهجرة والفرار للخارج، بينما نرى بالمقابل خططاً إسرائيلية ناجحة لزيادة أعداد المهاجرين اليهود من الخارج إلى إسرائيل.

ومع عجز المسئولين في الشأن الفلسطيني عن إيجاد حلول واقعية منصفة للشباب، تصبح العملية وكأنها عملية طرد مركزي للشباب الأكثر طموحًا ولعناصر المستقبل وبالمقابل خسارة الوطن لطاقات لا حدود لها.