غادة أسعد/ شفا عمرو

هي صفحاتٌ مِن تاريخِ شعبٍ لا يتخلّى عن أرضه، إلا مرغمًا، أتعبهُ الذُلُ والهوانُ، يعيشُ الفلسطيني في الداخل، فوقَ أرضٍ تكادُ لا تكفي مساحتها، لبناءِ بيتٍ يتّسعُ للأسرة، المكوّنة من الوالدين، والأبناء، والأحفاد، إذ يؤمِن المُحتلُ الإسرائيلي، أنّه كلّما قلّص مساحة السكَن وفرضَ الضرائب وهدّدَ بهدم بيت الفلسطيني فإنّ، الأخير يظلُ طوالَ حياته مُنهكًا بضيق العيشِ واحتياجه الدائم، ويعيشُ يُصارِعُ مِن أجلِ حياةٍ أفضل.

وتستوي الفردية والجماعية في حالة الفلسطيني، فالكلُ سواسية في استهداف الإسرائيلي لكينونة الفلسطيني وبقائه فوق أرضه، بدءًا مِن السعي المتواصل لتهويد الجليل، وهدم البيوت في المثلث، ووصولاً إلى النقب حيثُ يسعى الإسرائيلي لاقتلاع البدو من أرضهم، وتهجيرهم، وسلبهم كل ما يملكونه. هذه السياسة المعروفة، سطّرت دماءً سقطت فوق الأرض الفلسطينية، حيثُ ارتوت منطقة الشمال الفلسطيني، وتحديدًا البطوف، بدماء الشهداء الستة الذين سقطوا دفاعًا عن الأرض.

 

يوم الأرض 30 آذار 1976: منعطف تاريخي

سجّل هذا التاريخ، أولاً: "التأكيد لحقيقة الانتماء الوطني للجماهير الفلسطينية، ورفضها لمصادرة ما تبقى من أرضها، الأمر الذي يُعتبر تعزيزًا للرفض القديم لكل ما صُودِر، كما كان إعلانًا واضحًا منها بتمسُّكها بأرضها ورفض اقتلاعها منها". وثانيًا: "جاءت أحداثه متميزة بتحوّل نضالي قائم على الفعل والمبادرة، قبل أن تكون قائمة على رد الفعل، فقد أبدت الجماهير يومها استعدادًا عاليًا للمشاركة والتضحية والمقاومة، فقد كانت أحداثه ضخمة والمشاركة فيه واسعة، مما دفع السلطة الصهيونية لتفجير حقدها الأسود لتقمع المسيرات والمظاهرات ويسفر هذا القمع عن استشهاد ستة مواطنين، إضافة لجرح العشرات واعتقال المئات"1.

 

اعتقالات في صفوف الفلاحين

منطقة "المل"، وقد شكّلت هذه الأرض الشرارة المتفجّرة للاحتجاج الشعبي ضد الـمُصادرة منذ يوم الأرض الأول، عام 1976، تمتدُ على مساحة 60 ألف دونم. أطلَق عليها المعجم العسكري للانتداب البريطاني "المنطقة رقم 9"، كميدان للتدريبات العسكرية منذ العام 1942 وحتى 1944، إذ كانت سلطات الانتداب تعوّض الفلاحين المتضرّرين بسبب هذه التدريبات. وقد قرر "بن غريون" إغلاق المنطقة عام 1956، وحوّلها إلى منطقة عسكرية مغلقة. ومع ذلك ظلّ الأهالي يفلحون أرضهم، خلافًا للقرار، ولم يطلبوا تصريحًا لدخول أراضيهم، من مركز الشرطة في منطقة سخنين، ما دفع بالشرطة لملاحقتهم واعتقالهم.

وبدأ الجيش بهدم البيوت التي كانت موجودة هناك، وقام بالتضييق على الفلاحين وأجبرهم على ترك أرضهم، حيث لم تكن هذه المنطقة مصادرة حتى ذلك الحين، بل مغلَقة بوجه أصحابها فقط. وفي العام 1975 صدر كتاب عن الحكومة الإسرائيلية جاء فيه أن الحكومة تنوي البدء بعملية استيطانية جديدة في الجليل، وأن الدولة عازمة على إقامة العديد من المستوطنات على أرض المل. وبالفعل أقيمت عدة مستوطنات، من بينها إشحار وسلمون ويوفاليم وكمون.

وبدأ المستوطنون يصرخون أنّ هذه الأرض أصبحت لهم بناءً على قرار الحكومة بمنحهم إياها. وخلال العام 1975، صرّحت الحكومة أنها تنوي تقسيم هذه المنطقة إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول يُسمَح دخوله دون تصريح خاص. القسم الثاني يحتاج لتصريح من السلطات لأجل دخوله، أما القسم الثالث والأخير فيُمنَع الدخول إليه منعاً قطعيًا ولأي سبب كان.

ويؤكد رؤساء مجالس في منطقة البطوف أنّ سماسرة عربًا من المنطقة قاموا ببيع مئات الدونمات لليهود، وهم معروفون، كما عُرف المشترون اليهود، وهنالك خرائط تثبت ذلك.

 

تشكيل اللجنة القُطرية للدفاع عن الأراضي الفلسطينية

في 29 تموز عام 1975، تمّ تشكيل اللجنة القُطرية للدفاع عن الأراضي، وضمّت 121 عضوًا من كافة الأُطر السياسية والتيارات الفكرية، وكان رئيس الاجتماع التأسيسي الناشط وعضو حركة الأرض المرحوم أنيس كردوش. وقد أدّت اللجنة دورًا تعبويًا بارزًا، كما شُكّلت لجان محلية في القرى والمدن العربية للدفاع عن الأراضي، وعليه قرّرت اللجنة القُطرية تحضير المواطنين للإضراب، الذي تقرّر أن يكون بتاريخ 30 آذار، وردًا على الإضراب، قرّرت حكومة رابين تعزيز قوات الشرطة وحرس الحدود في الناصرة وسائر البلدات العربية والرد بشدة على التظاهرات والإضراب، وتمّ اعتقال عدد من الشبان، وخلال جلسة لرؤساء المجالس المحلية في مدينة شفا عمرو، تمّت مناقشة قرار الإضراب، وقد انقسم المجتمعون إلى قسمين، قسم يناصر الإضراب، وآخر يعارضه. وبعدها تقرّر أن يتم إعلان الإضراب العام، شرط أن يكون سلميًا، فوافقت الشرطة، لكنها عادت وداهمت القرى والمدن العربية وقامت باعتقال ناشطين سياسيين، فاشتدت التظاهرات وردّت الشرطة بالرصاص الحي على المتظاهرين، وفجْرَ الثلاثين من آذار 1976، تحوّلت القرى الثلاث: سخنين، دير حنا، عرابة، لساحة حرب ومواجهة حقيقية بين العسكر والمواطنين، وكانت الحصيلة أربعة شهداء هم: رجا أبو ريا، خضر خلايلة، خديجة شواهنة - وثلاثتهم من سخنين- وخير ياسين من عرابة، كما استُشهد محسن طه من كفر كنا، ورأفت زهيري من مخيم نور شمس في الطيبة، وجُرح نحو 50 شخصًا، واعتُقِل 300 شخص كما سُجّلت مئات حالات الاعتداء والعبث بالممتلكات.

ووُصفت أحداث يوم الأرض عام 1976 بالعصيان المدني والمواجهات العنيفة بين قوتين عسكريتين بالإضافة إلى المواجهات بين المواطنين -لاسيما النساء- وقوات الجيش، إذ تمّ احتجاز أربعة من أفراد الشرطة وستة جنود مسلّحين في احد بيوت قرية سخنين، بينما حاصر آلاف السكان البيت من الخارج، غير أن تهديد القائد العسكري للواء الشمال "رفائيل ايتان" باحتلال سخنين حدا ببعض الأشخاص وصاحب المنزل لفتح قنوات تفاوض مع المسؤولين للخروج من البلدة سالمين، وهو ما تمَّ كذلك بعد احتجاز مصفّحة عسكرية وبداخلها عدد من الجنود في بلدة عرابة، وتهديد إيتان باقتحام البلدة وهدمها تمامًا، ولكن مع تصاعد وتيرة الضغط الشعبي تمّ رفع الصبغة العسكرية عن أراضي المل ليعود لها أصحابها الشرعيون.

 

ندى نعامنة تُسجّل ملحمة بطولية!

لهذه السيّدة الأم، ندى مصطفى نعامنة، أم مصطفى- التي كان لنا لقاء سابق معها قبل رحيلها مطلع العام الحالي 2014- حكاية خاصة ربطتها بيوم الأرض، وهي الشاهدة على الشهادة والجرح وطعم الصمود والانتصار، إذ قاومت الاحتلال حتى تحافظ على أرض المل، فحملت العديد من الأوصاف ومنها "الأسطورة".

فأم مصطفى هي أعظم شاهدة، ومواجِهة لعنف الاحتلال. عانت من الاحتلال الانجليزي، عندما كان والد زوجها الجد أحمد نعامنة يحرث الأرض فانفجرت به قنبلة واستُشهد على الفور. واستمر ابنه حسني (زوج المرحومة)، بفلاحة الأرض وزراعتها بالقمح، حتى أخذت دائرة أراضي إسرائيل تطالبه بجزء منها كأملاك غائبين، حصة أخيه الذي رحل إلى لبنان في عام النكبة، وكانت مساحة الأرض حوالي 120 دونمًا، صُودِر قسم منها، وتبقى حوالي 78 دونمًا، ثم استمروا بالتضييق عليه واستماتوا في إقناعه ببيع الأرض أو تبديلها، لكنه ظل يرفض، وكانت أم مصطفى- رحمها الله- تطرد المفاوضين، وبعدها صودِرت أرض البطوف لصالح مشروع المياه القطري، علمًا أنها كانت وعائلتها تعتاش على زراعة القمح.

 

أشهر الجندي السلاح فأشهرت أم مصطفى السكين

كانت أم مصطفى قد حدثتني عن واحدة من عشرات المرات التي واجهت فيها الشرطة وحرس الحدود الذين أرادوا منعها من فلاحة الأرض، فقالت: "في أحد الأيام وصل زوجي مع صاحب تراكتور لحراثة الأرض، ولم تمضِ بضع ساعات وإذ بأحدهم يخبرني أنهم اعتقلوا زوجي وصاحب التراكتور، فتوجّهت إلى رئيس مجلس عرابة آنذاك، فتدخّل لإطلاق سراحهما. وفي اليوم التالي، قلتُ لزوجي هيا بنا إلى الأرض، قال: "سيعتقلوننا"، قلتُ له: "لا تخف"، والتقطتُ السكين، وأخذتُ "أبقّل من خيرات الأرض"، توقف جيب عسكري بقربنا وترجّل منها جندي حرس حدود بدوي، أمرنا بمغادرة المكان، وإلا فسيسجّل مخالفة ويعتقلنا، نظرتُ إليه نظرة غضب، وقُلت له: "خَلقة- شرطي سيمنعني من دخول أرضي التي أملكها من زمن الأتراك"، فأشهرَ المسدّس في وجهي، قلتُ له: "سأغرز السكين في صدرك"، فأخذه صديقه جانبًا، وظلّت الدورية تُطلق صافرات الإنذار وتسجّل المخالفات. أما أنا – قالت أم مصطفى – "فلم أنحنِ، رغم أنني كُنتُ أحيانًا لا أجد "تعريفة" حمراء، كي أشتري الخميرة لأعجن وأطعم أولادي".

ومن الذاكرة أطلقت ندى نعامنة، قصة أخرى، إذ قالت: "أثناء وجودي للاستجواب في مركز الشرطة بمنطقة سخنين تحدثتُ إلى الشرطي العربي "عاطف الحناوي" من دير حنا سيّئ الصيت والسمعة، الذي دفعني من رأسي بقوّة، فلم أجد أمامي إلا خلع حذائي وضربه به على وجهه، وعندما لم أجد فردة الحذاء التي تطايرت إلى وجهه عدتُ إلى البيت بفردة واحدة".

 

دم الشهيد خير ياسين بقي على ملابس أم مصطفى أيامًا

في ليلة الثلاثين من آذار سمِعَت أم مصطفى أصوات طلقات نارية قوية ومتتابعة، على الشارع الرئيس بالقرب من حي "البركة"، وتعالت الأصوات والصرخات، فغلى الدم في عروقها، وأمسكت بعصا غليظة وخرجت تجري نحو مكان الاشتباك، وتصرخ كي ينزلوا إلى الشوارع ويتصدوا للجنود، وفي منطقة البركة دارت المعركة بين الأهالي والجنود، وحوصر بعض العناصر من الشرطة، فقام أحدهم بالتصويب نحو الشهيد خير ياسين وأصابه في رأسه، فسارعت أم مصطفى ووضعت رأسه على ذراعها، ودمه ينزف بغزارة، ثم نُقل إلى المستشفى حيثُ فارق الحياة، وبقي دمه على ملابس أم مصطفى أيامًا، وهي ترفض تغييرها، ومع استمرار المواجهات ليلتها، أحضرت ندى نعامنة، أكوامًا من الحجارة قرب بيتها، واستعارت (كريكًا وشلفًا من حديد) ووضعتهما خلف البوابة، كي تستعملهما. وفي الصباح الباكر، دخلت مجموعة جنود مكونة من 25 جنديًا، يحملون العصي والبنادق ساحة البيت، قالوا لأم مصطفى والحديث لها "ادخلي بيتك"، فأجابت: "أنا في بيتي"، وإذ بأحدهم يدخل ساحة الدار ويرفع الهراوة في وجهها، لكنها عاجلته بضربة (كريك) هوَت على رقبته، فوقع أرضًا، فداست على صدره محاولة انتزاع البندقية منه، وإذا بفرقة كاملة تهاجمها، وتشبعها ضربًا، لكنها ظلّت تضرب بالكريك، حتى خرج أبناؤها وهاجموا الجنود، وفي المعركة تمّ الاعتداء على أبو مصطفى، الذي ضربه الجنود بكعب البندقية وفقد بصره، بينما تضعضعت صحة أم مصطفى منذ ذلك اليوم.

 

خديجة شواهنة شهيدة يوم الأرض

دفعت خديجة شواهنة، ثمنًا باهظًا، كلّفها حياتها، برصاصة استقرت في صدرها، عندما داهم الجنود حي"الحزين" في مدينة سخنين لكسر الإضراب. سنوات كثيرة مرّت، ورغم الفخر بالشهادة، لكنّ الحسرة لا تزال تبدو في عيني شقيقها دوخي شواهنة، الذي قال: "رغم أنّ والدي رفض المكافأة واعتبر خديجة شهيدة الأرض والوطن، إلا أنّ الوجع سيبقى مدى الدهر، خاصةً أنّها رحلت في مقتبل العمر، برصاصةٍ غادرة، جاءتها عن سبقٍ وإصرار".

 

زوجة الشهيد رجا أبوريا: الأرض أغلى من الذهب!

عن فراق زوجها تتحدث صبحية أبو ريا، فتقول: "لا زلتُ أذكرُ يوم استشهاده، الثلاثين من آذار 1976، يومها كانت سخنين "قايمة قاعدة"، الجيش يعيثُ في البلد فسادًا، يمنع الرجال من الخروج من البيوت، والدبابات تطوّق المنطقة. قالوا لزوجي صباح ذلك اليوم، ادخل إلى البيت، قال "طيب"، بقرف، ودخل البيت. ثم توقّف مرّة أخرى، وقرّر الخروج، نادى عليه الجيران، عد يا رجا سيقتلونك فقال "الموت ولا المذلة".

وتتابع: "تركني أنا وبناتي الأربع أكبرهُنّ في الرابعة وأصغرهن لم تتجاوز الأشهر الثلاثة، وكان يومها في الـسابعة والعشرين من عمره، وأنا ابنة 23. واليوم وبعد هذه السنين، كأنه لم يغب عني، ومشهد استشهاده يعود من جديد ليظهر أمامي"، بكت بمرارة ومسحت دموعها وتابعت: "استشهد عشان هاي الأرض..ترك لنا أمانة ورحل".

وتقول بحرقة: "أرى سخنين تضيق وتضيق، وتؤكَل أراضيها فأبكي، وأتحسّر على هذا الشباب الضائع. نعم هناك وطنيون لكن هذا لا يكفي..أما آن للظلم أن ينتهي؟! لقد سُلِبت معظم الأراضي، فماذا بقي لنا؟! إنهم يخرجون النساء من بيوتهن، وقد كنتُ في القدس وشاهدت نساءً محتاجات، يعشن في العراء، والمستوطن يسكن بيوتهن".

تتابع صبحية: "عندما أشاهد مسنين يحملون مفاتيح بيوتهم بانتظار عودتهم، يعزّ علي التخلي عن الأرض وبيعها، كيف يفرط العربي بأرضه؟ كيف يضيّعون تعب السنين الماضية، وتهون عليهم أرواح الشهداء لا لشيء، من أجل حفنة مال، لا يعلمون أنّ التاريخ سيحاسبنا على تفريطنا بأرضِنا، وهي عرضنا".

وتقول صبحية: "لا يمكن أن أنسى رجا، حين أعلموني انه استشهد، سعدتُ باستشهاده، لأنه رفع رأسي ورأس بناته، يكفي أن يقلن إننا بنات الشهيد رجا أبو ريا، إنه ارثٌ سنحافظ عليه، وسنعلّم أبناء بناتي الحفاظ عليه، وتقديس الأرض، صبرتُ على فراقه، لأنّ الأرض غالية، ولا ثمن لها، وأوصيتُ بناتي بالحفاظ على الأرض من أجل ذكرى والدهن، وفي ذكرى يوم الأرض نزور ضريحه، حاملين أكاليل الزهور، نقرأ الفاتحة عليه، ويرافقنا أزواج بناتي وأبناؤهن، ثم ننضم إلى مسيرة يوم الأرض الخالد". "أنا أقدس هذا اليوم وعلى شعبنا أن يقدّسه وان تختفي مظاهر الأحزاب والطائفية، لتبقى الأرض هي الأهم، فهي التي من أجلها تهون الروح، وحين أرى أمهات الشهداء تهون عليّ مصيبتي، وأترحم على زوجي الحبيب رجا، ولكن يجب أن نصبر حتى يمّل الصبر منا، وتعود لنا الأرض".

 

آخر الرجال في لجنة الدفاع عن الأراضي

يحملُ من الذاكرة الكثير، وهو حد مؤسسي لجنة الدفاع عن الأراضي. وحول رمزية يوم الأرض يقول المحامي محمد ميعاري: "كي نحافظ على ذكرى يوم الأرض بمعناه ورمزيته ورسوخه في الذاكرة الفردية والجمعية للحاضرين منا وللأجيال القادمة، علينا أن نخرج من حقيقة أنّ الذكرى هي تقليد سنوي فقط، وأرى لزامًا على الأطر والهيئات الفلسطينية القيادية في الداخل أن تتحمل مسؤوليتها، وأقصد تحديدًا، لجنة المتابعة العليا لشؤون الجماهير العربية، وأن يعاد بناؤها وفق مصلحة الجماهير التي صنعت يوم الأرض وخلّدته".

وفيما يتعلَّق بمشروع مصادرة الأراضي الذي كانت اللجنة قد تشكّلت للتصدي له يقول: "إن مشروع مصادرة الأراضي هو الفتيل الذي أشعل شرارة يوم الأرض، وما زالَ المخطط الاستيطاني يتسع ليتّخذ أشكالاً أكثر عنفاً، تطال البيوت وساكنيها في كل بقعة من أراضي الـ48 وصولاً إلى النقب، كما أشارت آخر الإحصائيات إلى أنّ 40% من الفلسطينيين في الداخل سيحتاجون لوحدات سكنية خلال السنوات العشر القادمة، ولكي نكون على قدر المسؤولية التي حملّنا إياها شعبنا منذ العام 76، علينا أن نلتزم بالإعلان عن الإضراب".

أمّا الباحث نبيه بشير، فرأى أن قيمة يوم الأرض نابعة من "كون هذا اليوم نتاجًا لعملية تاريخية بدأت منذ الخمسينات، إذ أرادت إسرائيل في تلك الحقبة أن تجعل الفلسطيني يرضى بتهميشه وتحويله إلى عبد، لكن مرحلة التمييز التي يشعر بها الفلسطيني في الداخل وصلت إلى حدٍ لا يُطاق، وتغذّت مشاعر الجماهير بالأحداث التاريخية المهمة، ومن بينها الاعتراف الدولي بمنظمة التحرير الفلسطينية، والتحولات في إسرائيل بعد حرب 73، ومن ثم تعبئة المجتمع الفلسطيني ضد مخططات مصادرة الأراضي و"تهويد الجليل"، كل هذه المتفرقات – مجتمعةً شكلت نواة لشعلة "يوم الأرض".

ويرى بشير في الإضراب العام في أيام الأرض "إعلان تمرّد"، حيثُ يقول: "الإضراب العام كان عبارة عن "إعلان تمرد"، فئة قومية تتمرّد على سيادة الدولة، وخلال السبعينات بدأت الجماهير العربية بالتنظّم تحت مسؤولية بعض القياديين البارزين، وهذه نقطة أخرى مهمة في تاريخ شعبنا، لكن الأمر يحتاج إلى استثمار المناسبة الجبّارة لبناء تصوّر جماعي مستقبلي للمواطنين العرب وعرض حلول واقعية بديلة لحال قيادتنا الهزيلة".

 

الأرض والمسكن: قضية وجود

معركة يوم الأرض، ما سبقها، وما لحقها من محاولات لاقتلاع الأرض واغتصابها مِن أهلها الفلسطينيين، ما هي إلا حرب وجودٍ وبقاء، يستميت فيها الصهيوني لانتزاع الأرض، ويُصارع الفلسطيني كي يُحافظ على ما تبقى. وفي إسرائيل اليوم، هناك 1200 مدينة وقرية يهودية، بينما يمتلك العرب 108 بلدات عربية، أي ما نسبته 9% فقط، علمًا أن نسبة العرب هي 23%، من مجموع عدد السكان في البلاد، وعكس المطلوب فإنّ إسرائيل قامت ببناء مدينة عربية جديدة مثل "رهط" في النقب، لا لحل مشكلة الإسكان وتلبية الحاجة المتزايدة بسبب التكاثر الطبيعي، وإنما لإزالة بلدات عربية صغيرة ومتفرقة، بما فيها بعض تجمعات القرى غير المعترف بوجودها، والسعي لنقلها إلى بلدة واحدة جديدة، لتقليص المناطق ومنع انتشار العرب وتوسعهم.

كما بيّنت الأبحاث والاستطلاعات العلمية أنّ 28،2% من الأُسر العربية في إسرائيل تعرّضت لسلب ومصادرة أرضها، و13،4% منها فقدت بيوتها (من خلال التهجير أو الهدم)، و17.2% من الأُسر القاطنة اليوم يعود أصلها إلى قرىً مهجّرة ومهدمة قامت على أرضها مستوطنات يهودية، أو تحوّلت إلى أراضٍ زراعية وأحراشٍ وحدائقَ ومتنزهات وطنية عامة أو محميات طبيعية، يتمتع بها اليهود.

ويُشار إلى أنّ كثافة المنزل تستوعب 75.4% من عموم المواطنين، بمعدل فرد واحد أو أقل للغرفة الواحدة، ويعيش 5.8% من المواطنين بأكثر من فردين للغرفة، بينما النسبة لدى العرب فهي 32.9% للفرد الواحد في غرفة واحدة و10،8% بأكثر من فردين للغرفة، وعمومًا تصل الكثافة بين العرب إلى معدل 1.7 أفراد للغرفة الواحدة مقابل 0.9% لدى اليهود2.

وفي ظل هكذا واقع لا ينبغي استهجان الظواهر غير المنطقية التي تقوم بها إسرائيل من هدم بيوت ومصادرة أراضٍ، وعدم الاعتراف بالطابو الذي يحمله أصحاب البيوت، والتضييق في المسكن، والأرض والزراعة وسائر مناحي الحياة التي تخص الفلسطيني في البلاد.

 

فلسطينيو الـ 48، يواجهون تحديات جديّة

إزاء التحدّيات التي تقف في مواجهة الفلسطيني، فإنّ لجنة المتابعة العليا، بكلّ مُرَكَّباتها، تدعو إلى إحياء هذه المناسبة، عبر الالتزام بالإضراب العام الذي يشمل السلطات المحلية والمدارس والمُؤسسات التعليمية العربية وجميع المُؤسسات والمرافِق، والمشاركة الفاعِلة في جميع فعالِياتها ونشاطاتها، بعيدًا عن الخِلافات والاختلافات، وبشكل وحدوِيّ، في مواجهة المخاطِر الجَماعية التي لا تستثني أحدًا، بدون رفع الأعلام الحزبية أو الإشارات الفِئَوِيَّة، ومن خلال شعارات وهتافات وحدوية وطنية جامِعة، خصوصًا أن هذه المرحلة لا تحتمل "ترَف" النزَعات الفِئوية الضَيِّقَة، مهما كانت قيمتها بنظر أصحابها.

 

المتابعة تعبّئ الشارع الفلسطيني

وتناشد لجنة المتابعة العليا جميع الأحزاب والحركات السياسية، والسلطات المحلية العربية، واللجان والهيئات الشعبية، المحلية والقطرية، تَحمُّل مسؤولياتها والقِيام بدورها وواجباتها، في تنظيم الفعاليات والنشاطات التعبَوِيَّة، المحلية منها والقطرية، لإنجاح الإضراب العام ورَفع رسائله السياسية اللاّزِمَة، للمؤسسة الإسرائيلية من ناحية وللجماهير العربية من ناحية أُخرى، والمشاركة الشعبية الواسعة والفاعِلَة والـمُنظَّمَة في المسيرات والمهرجانات، والالتزام بِشِعاراتها، كما لا ينحصر هذا النداء بيوم الأرض، بل ينطبق على كافة القضايا التي تخص فلسطينيي الداخل، وعليه فإنّ التكاتف، والمواجهة الوحدوية هي القادرة على تسجيل موقف، وإعادة الأرض لملكية أصحابها الأصلانيين.

انتزاع الأرض عبر مخطط "برافر"

ومن الجدير بالذكر أنّ العام 2012 شهد حراكًا فلسطينيًا بارزًا ضد مخطط "برافر" الرامي إلى مصادرة مئات آلاف الدونمات من العرب الأصلانيين في تلك المنطقة، والذين يبلغ عددهم نحو 200 ألف نسمة، من خلال حشرهم في أقل من 100 ألف دونم، أي أقل من واحد بالمئة من مساحتها الإجمالية. ويعتبر "مخطط برافر" أكبر مخطط كولونيالي يستهدف الوجود الفلسطيني منذ العام 1948، ومعركة النقب تُشكل معركة فاصلة على ما تبقى من أراضٍ عربية، بعد أن نالت المؤسسة الإسرائيلية من أراضي الجليل والمثلث والمدن الساحلية على مرّ الأعوام، ولم تُبقِ بملكيتهم سوى 650 ألف دونم.

 

القرى العربية الدرزية مُستهدفة

تأزمت الأوضاع في كافة القرى العربية والدرزية بعد مصادرة أراضي في منطقتَي الجلمة والمنصورة وعدم توسيع المسطحات وانعدام الأراضي المخصصة للبناء للأزواج الشابة وانتشار ظاهرة البيوت المبنية دون ترخيص والمهددة بالهدم خاصة في عسفيا والدالية (الجليل)، علاوةً على النقص الشديد في الخرائط الهيكلية، غير الموجودة أو القديمة التي تلبي الحد الأدنى من احتياجات السكان. أما عن البنى التحتية أو -قُلْ انعدامها تقريبًا- فحدث ولا حرج. في موضوع المناطق الصناعية حصرًا هناك ظلم وتمييز مضاعف بل ومثلث، فأغلب الحدائق الصناعية الكبيرة في الشمال قامت على أراضٍ عربية مُصادرة، المستفيد الأول والوحيد منها هو المجالس الإقليمية والبلديات اليهودية بينما تغيب المناطق الصناعية الملائمة عن الخرائط الهيكلية. وأدهى ما يواجه الفلسطيني في موضوع الأرض والمسكن هو استخدام معايير الحفاظ على البيئة والطبيعة باعتبارها معايير إنسانية وعالمية للتضييق على القرى والمدن العربية ولربما أهم وأخطر حالتين تتعلقان بقرى عربية درزية مثل بيت جن والمحمية الطبيعية في أراضي الزابود وعسفيا ودالية الكرمل ومحمية جبل الكرمل.

وكما سائر الأطياف الدينية والشعبية فإنّ للجنة الدفاع عن الأرض المعروفية التي كان لها دور تشكيل لجنة الدفاع عن الأراضي العربية حيثُ لعبت الدور المركزي في تنظيم يوم الأرض، يوم إعلان الإضراب العام في الثلاثين من آذار عام 1976، وبفضله وخاصة بدماء الشهداء الطاهرة، مُنعت مصادرة أرض المل في قرى البطوف.

 

1: (المصدر: فلسطينيو 48 نضال مستمر، 1990، تأليف: ج. محمد، و. نزال، ز. الصباغ).

2: (المصدر: اقتلاع الإنسان، المؤسسة العربية لحقوق الإنسان، الناصرة).