بقلم: حنان بكير

كعادتي التي لن أغيّرها.. سأظل أحكي عن أحبابي الراحلين بفرح. لأني بالفرح أستحضر أرواحهم. علي أبو طوق. هكذا من دون أي لقب أو رتوش. بل اسمه، لقب لكل المعاني الإنسانية. هو نورس حيفاوي أفلت من بحر حيفا.. وحلّق فوق سماء كل المخيمات مبشّرا بعودة النوارس الى موطنها.

علي أبو طوق.. قائد/ عفوا قدّيس مخيمي صبرا وشاتيلا. يصادف يوم السابع والعشرين من كانون الثاني، ذكرى إصابته بقذيفة فقدت ضميرها، حملته بعيدا عنّا. أعادت روحه الى حيفا، واحتضن مسجد المخيّم جسده.

يوم التقيته لأول مرة، خلت نفسي سأقف امام قائد عسكري ضخم. فوجئت بإنسان رقيق، مهذب وجنتلمان.. وعلى قدر من الاستحياء! مع تواتر اللقاءات.. رأيت الف شخصية وروح في جسد واحد! رأيت كم أحبّه الأطفال وكيف كان لديه الوقت ليحلّ النزاعات بينهم بعد ان يحتكموا إليه، وكيف ان حكمه لا يردّ. سرت معه في أزقة المخيم، كان مدججا بالسلاح، وعندما يشاهد طفلا.. يدسّ يده في جيبه ليخرج لهم حبات الشوكولا والسكاكر، وينقلب طفلا مثلهم. كان قسم الاطفال» ورحمة علي»!

ذات مرة، استوقف امرأة بشعر طويل..أخرج من أحد جيوب بنطاله العسكري، ربطة شعر وقال لها: « ضبّي شعرك، مش ناقصنا قمل في المخيم».

مخازن تموينه، ضمّت حفاضات الاطفال وعلب وزجاجات الحليب... وحتى الألعاب. لم يغب عن باله النساء ايضا! فقام بتموين مستلزماتهن الخاصة جدا. وربطات الشعر.

فترات الهدنة، كانت تحوّله الى عامل نظافة لأزقة المخيّم ومجاريرها..

أخبرته ذات مرة عن فنان تشكيليّ فلسطيني، يعاني المرض ولا طاقة له لتأمين العلاج. قلت لعلي: سأحضر لزيارتك مع الفنان. أجابني على الفور: مثل هؤلاء، نحن نذهب اليهم.. لم أفهم كيف سيذهب اليهم! في اليوم التالي أرسل وفدا من امرأتين الى بيته مع مبلغ من المال.. وأجرى له مخصصا شهريا.. كان يصله بانتظام!

شغل فكري هاجس كان يطلّ عليّ من وقت لآخر.. هل يعقل أن يكون هذا الانسان الرقيق مقاتلا أو قائدا !! تبخّر الهاجس، يوم كنت في المخيّم وبدا واضحا سقوط وقف اطلاق النار.... صرخ بي أن اخرجي بسرعة! لم أخرج.. أريد رؤية عيني ذلك الطفل الكبير وقد انقلبت الى عيني نسر كاسر وبدأ بتوزيع العناصر على كل المحاور! وقفت مندهشة، فصرخ بي بغضب: ألم تسمعيني اخرجي، مش ناقصنا انت بعد!! فهرولت مسرعة خوفا من ان يطلق رصاصة انذار فوق رأسي..

وللفرح مكان في المخيّم وفي قلوب المحاصرين. أنشأ عليّ، فرقة دبكة.. كانت التدريبات تتم في ملجأ تحت اكوام الردم وبإشرافه. الدبكة تمدّ الناس بالفرح وبالعزيمة التي تعينهم على تحمل جحيم الحصار. ربما هو تعد على خصوصيته.. ولكني راح « بق البحصة» وأحكي. بعد وفاته كان منزل امه الفقيرة مرهونا!

في جلسة، بدا كئيبا، قال لي بألم وشت به عيناه: أليس غريبا أننا حملنا السلاح لإلغاء المخيم بتحقيق العودة، واليوم نحمل السلاح للحفاظ على المخيم من اجل حق العودة!!!