عندما بدأ نتنياهو مسيرته السياسية عام 1983، بدأها بمقال نشره في حينه في صحيفة "وول ستريت جورنال Wall Street Journal". الفكرة الرئيسية في هذا المقال أن القضية الفلسطينية، ليست هي لب الصراع، وأن هذه القضية تحل من تلقاء نفسها بعد أن تعترف الدول العربية، بأن اسرائيل ليست جسمًا غريبًا في المنطقه، وبعد أن توقع كل هذه الدول اتفاقيات تطبيع مع إسرائيل. وعندما قررت حكومة رابين - بيرز  أن تبدأ في حل الصراع عام 1993 مع الفلسطينيين كمدخل لشرق أوسط جديد، قال نتنياهو إن هذا وهم متمسكا برأيه أن لسلام يبدأ أولًا مع الدول العربية، وبقي مناهضًا بشدة لسياسات رابين.

وبعد أن تولى نتنياهو السلطة عام 1996، عمل بكل السبل لتدمير أي فرصة للسلام مع الفلسطينيين،  بموازاة ذلك قام بتغيير البنى الاقتصادية والاجتماعية في إسرائيل، بهدف محاصرة نخب السلام وإحلال النخب اليمينية المتطرفة، التي تتمسك بما يسميه "أرض إسرائيل" من النهر للبحر، وتفرض تطبيعًا مع الدول العربية من موقع قوة يقبل بتنحية القضية الفلسطينية عن الطاولة. وعشية وصول الرئيس ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة الأميركية، كان نتنياهو قد غير عميقًا المشهد السياسي في إسرائيل، ولم نعد نرى في هذا المشهد أي وجود لليسار، وحركة السلام الآن، ولم تعد القضية الفلسطينية على جدول أعمال أي حزب في إسرائيل.

مع ترامب نفذ نتنياهو كل أهدافه التي بدأ بها حياته السياسية، تطبيع مع دول عربية، وتهميش تام للقضية الفلسطينية، وكان هو وترامب ينفذان هذه الرؤية بحيث تقود اتفاقيات التطبيع إلى فرض صفقة القرن. ربما لم يدرك البعض منا عمق تصريحات أيمن عودة رئيس القائمة العربية المشتركة بأن إسقاط نتنياهو سيغير الكثير في إسرائيل، وفي المعادلة برمتها، خصوصًا مع سقوط ترامب واليمين في الولايات المتحدة.

اليوم يسقط وهم نتنياهو، بالقفز عن القضية الفلسطينية، وهو يقف وجهًا لوجه مع هذه القضية، وليس هذا وحسب، إنه أمام شعب فلسطيني موحد، أسقط واقع تقسيمه إلى ضفة، وغزة، وداخل وخارج. اليوم أسقط الشعب الفلسطيني، وهم هذا العنصري، كما أسقط إمكانية التطبيع قبل إنهاء الاحتلال.

نلاحظ بالمقابل كيف يحاول نتنياهو أن يحافظ على وجوده في سدة الحكم، ويحافظ على الانقلاب الذي قاده في إسرائيل وفي المنطقة، هو يلوح مرة أخرى بورقة الخطر الوجودي. لإسكات أي صوت معارض له في إسرائيل، هو يدرك أن هذه الورقة يمكن استخدامها مرة تلو الأخرى، ومن خلالها أن ينجح مرة تلو الأخرى بسرقة صندوق الاقتراع في أية انتخابات تجري في إسرائيل. مما يظهر فإن نتنياهو يحقق ما يريد عبر  تسويق الوهم، بأنه المنقذ والمخلص لإسرائيل والإسرائيليين.

المشكلة في هذا المتغطرس، أنه لا يمكن أن يرى الحقيقة، أولًا: أن القضية الفلسطينية هي لب الصراع، وأن القفز عنها لن يأتي بشرق أوسط جديد، آمن ومستقر، وثانيًا: أن حقيقة إسرائيل كدولة عنصرية وفاشية بدأ الرأي العام العالمي يدركها ويعمل على فضحها ويناضل ضدها، وثالثًا: أن المواجهة الحالية مع الشعب الفلسطيني، تختلف عن كل المواجهات السابقة، هناك  شعب موحد ويعمل بإيقاع مختلف وأنه سيواصل المواجهة حتى تسقط أوهام نتنياهو ويسقط الاحتلال والعنصرية معه.

ما نشهده اليوم هو لحظة نضوج موضوعية وذاتية لدى الشعب الفلسطيني، لحظة نضوج في الوعي، أن مواجهة الاحتلال، وعنصرية وفاشية إسرائيل، وسياسة الفصل العنصري، لا بد أن تتم بشكل موحد ومتزامن وشامل، وأن هذه المواجهة هي وحدها القادرة على تحقيق إنجاز، وحتى إمكانية إحداث تغيير في داخل إسرائيل. بالتأكيد في البداية سوف يتغذى نتنياهو هو والمتطرفون من نغمة الخطر الوجودي إلا أن الواقع سيفرض نفسه في إسرائيل بالإدراك أنه لا يمكن الاستمرار بالاحتلال وسياسة التمييز العنصري، ولا بمنطق قانون يهودية الدولة، الذي  أقره الكينست الإسرائيلي في ذروة وهم نتنياهو، بأنه بالإمكان شطب القضية الفلسطينية.