تقرير: د.رامي عيشة

قبل ٣٨ عاماً حصلت مجزرة صبرا وشاتيلا، التي استمرّت لمدة ثلاثة أيام على التوالي: 16-17-18 أيلول على يد المليشيات المسيحية من حزب الكتائب، وجيش العميل سعد حداد الذي شكّل ما عُرف باسم "جيش لبنان الجنوبي"، وعدد كبير من المرتزقة المسيحيين بغطاء من الجيش الصهيوني بقيادة وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك أرئيل شارون والجنرال رفائل إيتان رئيس هيئة الأركان العامة في جيش العدو.

وبعد ثلاثة أيام من القتل والذبح تكشّف حجم المجزرة والتي راح ضحيتها ما يقارب من ٣٥٠٠ شهيد من الرجال العُزّل والنساء والأطفال والشيوخ غالبيتهم من الفلسطينيين واللبنانيين، فضلاً عن سقوط عدد من العراقيين والسوريين والإيرانيين.

 

الخديعة الكبرى

قبل المذبحة، بدأت عمليات استطلاع للمناطق المحيطة بمخيم صبرا وشاتيلا، وكانت مجموعات من المدنيين ترتدي زي الجيش اللبناني وتتكلم اللهجة اللبنانية تدخل إلى منطقة الحي الغربي وصولاً إلى شارع صبرا الرئيس للسؤال عن "المخرّبين". وكان جواب السكان دائماً أنْ لا مخرّبين في المنطقة، فالمقاومة الفلسطينية انسحبت إلى تونس ولم يبقَ في المنطقة سوى المدنيين.

في تلك الأثناء كان العدو الصهيوني يقطع أوصال المناطق المحيطة بمخيم صبرا وشاتيلا، فبدأ بالتقدم من الخط البحري مروراً بدوّار السفارة الكويتية في اتجاه منطقة الكولا، وبالتوازي تقدم من منطقة السفارة الكويتية في اتجاه مستشفى عكا التي تقع على مقربة من جسر المطار، وانتهاءً بالتقدم من المطار مروراً بمستديرة شاتيلا في اتجاه منطقة رأس النبع.

وأثناء التقدم كان العدو الصهيوني يعامل أهالي المنطقة بالحسنى، فيقدم لهم الطعام ويتحدث معهم، ويؤكد أن الجنود الصهاينة متواجدين في المنطقة للبحث عن المخرّبين وأن المدنيين هم الآن في حماية "جيش الدفاع الإسرائيلي"، وهكذا انطلت خدعة العدو الصهيوني على المدنيين.

وبعد استكمال عملية تقطيع المنطقة، بدأ عملاء الصهاينة في منطقة الشويفات يعدّون العُدة للدخول الى مخيم صبرا وشاتيلا، ووصلت الدفعة الأولى من القتلة عند الساعة الثانية ظهراً، وبدأت بالتسلل الى المناطق المحاذية بالمخيم، وكانت الخطة تقوم على ارتكاب المجزرة عند حلول الساعات الأولى من الليل وتحت جنح الظلام.

 

بدءُ المجزرة

في تمام الساعة السادسة إلاّ ربع، وصل "محمد سرور"، أحد سكان مخيم شاتيلا، إلى منزله المطلّ على الشارع الرئيسي لصبرا، وبدأ يشاهد من الطبقة الثانية من منزله تقدم المليشيات المسيحية من بعيد. فهرع مسرعاً ليخبر أهله عما شاهده، لكن التطمينات التي تلقاها السكان من الصهاينة دفعت بوالده الى عدم تصديقه طالباً منه الكفّ عن المزاح في هذا الوقت العصيب. مرة .. مرتين .. ثلاث مرات كان محمد يصعد إلى الطبقة الثانية من منزله، لتفقد تقدم المليشيات المسيحية، وكان صوت صراخ المدنيين وصوت السباب عليهم يعلو شيئاً فشيئاً، فأخبر والده عما شاهده، فما كان من الوالد إلاّ أن طلب من محمد وإخوته الخروج من المنزل في اتجاه مستشفى غزة. أثناء مغادرة محمد لمنزله لمحه القتلة من بعيد، فصرخوا عليه وطلبوا منه الاستسلام، ولمّا لم يمتثل إليهم أطلقوا النار في اتجاهه، لكنّ القدر أسعفه وفرّ مسرعاً في اتجاه أزقة المخيم.

وخلال ساعات الليل كان محمد والعديد من السكان الذين خرجوا في اتجاه "مستشفى غزة الجراحي"، يشاهدون القنابل المضيئة في سماء المناطق المحيطة للمخيم، دون أنْ يدروا أنّ مجزرة قد بدأت فصولها بالفعل. في تلك الليلة المشؤومة كانت تخرج سيارات الإسعاف من مستشفى غزة لتفقّد ما يجري، لكنها لم تكن لتعود، وكان الاعتقاد السائد أنها تتجه إلى مستشفى عكّا بدلاً من العودة إلى غزة. وبقي الحال على ما هو عليه حتى بزوغ ساعات الفجر الأولى، قنابل مضيئة وصوت رشقات نارية متقطعة، دون أنْ يدري السكان ما كان يحدث بالفعل.

في الصباح الباكر، قرّر محمد الذهاب برفقة قريبه لشراء الفطور، وما أن وصلا إلى منطقة الدنا حتى قابلهم شخص من المنطقة، وطلب اليهم عدم التوجه إلى منطقة صبرا، فهناك مجزرة تحصل على أطراف المخيم، وكان آخر ضحاياها عائلة سرور، دون أنْ يدري ذلك الشخص أنه يتحدث عن عائلة محمد. فانطلق محمد وقريبه مسرعين في اتجاه مستشفى غزة، وهناك وجد والدته وأخته مصابات بعدة طلقات نارية ويتم إسعافهم من قبل الطاقم الطبي.

 

رواية أم محمد سرور

صباح يوم السبت، شعر القتلة بحركة داخل منزل عائلة سرور، فقرعوا باب المنزل وطلبوا التحدث مع الوالد، وطلبوا من الأطفال والنساء بالوقوف على الحائط. وبدأوا يساوموا أبو محمد لدفع المال لهم، لعدم التعرّض له ولعائلته، فما كان منه إلاّ ان دفع لهم مبلغ قيمته ٢٨ الف ليرة لبنانية. وبعد حصولهم على المال كشروا عن أنيابهم، وبادروا إلى تصفية جميع من كانوا في المنزل. فقتل والد محمد على الفور، وقتلت شقيقة محمد شادية التي لم تبلغ بعد عامها الثالث، وقتلوا إخوته الثلاثة شادي وفريد ونضال، وجارتهم التي كانت تختبئ عندهم، وظنوا أنهم قتلوا الأم واخوته البنات، في حين أن إخوته الصغار نجوا بعدما اختبئوا في حمّام المنزل.

بعد خروج القتلة من منزل عائلة سرور ظناً منهم أنهم أجهزوا على الجميع، حملت أم محمد -المصابة بثلاث طلقات نارية- ابنتها المصابة وهرعت فيها إلى مستشفى غزة لإنقاذها. في حين كان القتلة يصولون ويجولون على أطراف المخيم لإشباع وحشيتهم بقتل المزيد من الأبرياء والمدنيين العُزّل.

 

بعد المجزرة

بعد انتهاء المجزرة وانسحاب المليشيات المسيحية من محيط مخيم صبرا وشاتيلا، دخل الجيش اللبناني الى المنطقة، وبدأ يسعف المصابين من الناجين، ومنعوا الناس من الدخول إلى المخيم لهول المناظر.

وبطريقة احتيالية استطاع محمد سرور أنْ يدخل الى المنطقة وهاله ما شاهده، فالجثث كانت مكدّسة فوق بعضها البعض، أحياء تم هدمها فوق رؤوس قاطنيها الأبرياء، نساء بُقرت بطونها، نساء قطّعت أثدائهن، أطفال صلبوا، رجال قطّعت رؤوسهم وعُلقّت على الأعواد، شيوخ حرقوا، جثث رميت على أطراف الطرقات.

 

في انتظار العدالة

٣٨ عاماً مرت، ولا يزال اهالي الشهداء ينتظرون العدالة في جريمة دُوّنت على أنها من أفظع مجازر التاريخ الحديث، ولا يزال المجرمون أحراراً، طلقاء، ويتبجّحون بشعارات العدالة والحرية والاستقلال ويطالبون بالتفاوض مع العدو الصهيوني ونزع سلاح المقاومة.

 

فلمن لا يتعلّم من التاريخ، في اللحظة التي يُنزع فيها سلاح المقاومة الفلسطينية واللبنانية وشرفاء الأمة، سيدوّن القرن ال ٢١ مجزرة جديدة على يد عملاء الصهاينة في لبنان، لكن هذه المرة بغطاء عربي باع فلسطين وأهلها.