يقع على عاتق رئيس دولة فلسطين، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية في هذه المرحلة جبلٌ من الهموم، والتحديات، والتهديدات، والمتغيِّرات الدولية، والإقليمية، والمحلية التي لها أول ولكن لا يبدو أن لها نهاية، ورغم ذلك كله لم تصدر عنه عبارات اليأس، فهو ما زال كما كان منذ نهاية الخمسينيات، وسيبقى متماسكًا دون التردد لأنَّ قادتنا كما اعتدنا عليهم في مسيرتنا مع ياسر عرفات يزدادون إبداعًا، وعطاءً، وتحديًا، وصلابةً كلما اشتدت الأزمات، وكلما تشابكت المؤامرات، وكلما برزت أنيابُ الغدر والأحقاد.

اليوم، يسعى ترامب الصهيوني لفرض صفقة القرن على المنطقة بشكل عام، ولكنَّ العين الصهيونية محمرَّةٌ أكثر على القدس الفلسطينية الكنعانية، وترسانات الأسلحة والكراهية الصهيونية تتهيأ للانقضاض على الشعب الفلسطيني، ونسف وجوده، لأنه هو الذي يقف بالمرصاد، وهو الذي ردَّ الصاعَ صاعين، وهو أيضًا الذي يسعى جاهدًا، ولن يتردد في ليِّ ذراع ترامب وصفقته، وزبانيته، لأنه صاحبُ الأرض والمقدسات، ومن سلالة الكنعانيين واليبوسيين، ومن سلالة الأنبياء.

الرئيس أبو مازن كان صلبًا متماسكًا في خطابه أمام الأمم المتحدة، وخاطب قادة العالم من موقعه القيادي لأعظم شعب مجاهد في سبيل حقوقه الوطنية، وكقائد لأطول وأعنف ثورة في العالم، بدأت ولم تنتهِ بعد، وهو واثقٌ من نفسه ومن شعبه بأن النصر قادم في أرض الأنبياء والمقدسات.

ولذلك هو في خطابه الذي تميَّز بالشمولية والجدية لم يستجدِ، ولم يستغثْ، وإنما دعا العالم وذكَّره بضرورة القيام بدوره تجاه آخر شعب لم يتحرر حتى الآن بسبب التآمر الصهيوني عليه وعلى أرضه، وبسبب خذلان الهيئات الدولية صاحبةِ القرار وخاصة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ومجلس حقوق الإنسان، والمؤسسات الأخرى التي طبَّقت قراراتها وقوانينها على كافة الدول التي تحررت شعوبها باستثناء فلسطين. والرئيس محمود عباس المؤمن بحقوق شعبه، والمؤمن بتحرير المقدسات قدَّم مشروعًا سياسيًا مشرِّفًا لدول العالم التي تنتصر للحق والسلام والحرية، وهذا المشروع الذي عبَّر عنه الرئيس بحكمةٍ، ورويَّةٍ، واتزان بعيداً عن الانفعال، هو الذي يستطيع أن ينقذ دول العالم وهيئاته الدولية من مستنقع الحقد والعنصرية والكراهية الصهيونية، الذي صنعه ترامب ورفيق دربه نتنياهو المجبول بالكراهية والإرهاب ضد الإنسان، كإنسان، وخاصة الإنسانَ الفلسطيني المتمسك بالارض.

لقد كان العامل الأبرز في مشروع الإنقاذ هو التأكيد على الحقائق الجوهرية، والتي لا تخضع للمساومة لأنها هي جوهر القضية الفلسطينية:

أ‌- إن منظمة التحرير الفلسطينية لم تفوِّض أحدًا للحديث أو التفاوض باسم شعبنا الفلسطيني، وهذا يعني أن رأسمالنا النضالي هو استقلالية القرار الفلسطيني، وهو ملك للشعب الفلسطيني، ولا نسمح بتأجيره لأي جهة كانت. فنحن الذين نقرِّر مصيرنا، ونحن أسياد أنفسنا، وتاريخيًا كنا قد حوصرنا، وتألَّمنا، وتقطَّعت بنا السُبل لكنَّ قرارنا ظلَّ بأيدينا حتى الآن.

ب‌- القرار واضح وهو ميداني ومُلزم عندما قال: "واهمٌ من يظن أنَّ شعبنا يمكن أن يتعايش مع الاحتلال، أو يخضع للضغوطات والإملاءات ". والذي لا شك فيه أن التجارب الوطنية منذ ما قبل النكبة وحتى الآن، ورغم الجرائم والمجازر الصهيونية، فإنَّ شعبنا ظلَّ صامدًا صابرًا ومقاومًا، ولم يحد عن ثوابته الوطنية.

ج- كان سيادة الرئيس واضحًا وجريئًا وحاسمًا عندما قال: لن يكون أي سلام ولا أمن ولا استقرار، ولا تعايش في منطقتنا مع بقاء الاحتلال، ودون الحل العادل والشامل للقضية الفلسطينية، التي هي أساس الصراع وعنوانه. وأهمية هذه النقطة أن التحدث عن السلام لا يعني الاستسلام، وإنما يعني التمسك بالحقوق والثوابت الوطنية.

د- أكد الرئيس في خطابه وهذا قمة التحدي لترامب وفريقه:

إننا سوف نواصل صناعةَ الحياة، وبناءَ الأمل تحت راية الوحدة الوطنية والديموقراطية، والتصدي لمحاولات ومخططات شطبنا وإلغائنا، وسوف نستمر في انتزاع مكانتنا الطبيعية بين الأمم، وفي ممارسة حقوقنا التي كفلتها الشرائع الدولية، بما في ذلك حقنا في مقاومة الاحتلال وفقًا للقانون الدولي.

ه- ولتعزيز هذه الخطوات السابقة عمليًا فقد بشَّر الرئيسُ الشعبَ الفلسطيني وأحباءَه والحريصين على حريته: إننا نستعد لإجراء الانتخابات البرلمانية ثم الرئاسية بمشاركة كل القوى والأحزاب والفعاليات الوطنية، وهذا تحوُّل مهم في الساحة الفلسطينية يُغضبُ الاحتلال وأعوانَه.

ثم يضع الرئيسُ الختمَ الفلسطيني لتوثيق كل ما تقدم وطنيًا ورسميًا من خلال قوله الواضح والصريح وبالصوت المرتفع: برغم كل ما تعرَّض ويتعرَّض له، وبرغم الحصار الظالم الذي يستهدف قرارنا الوطني، لن نركع، ولن نستسلم، ولن نحيد عن ثوابتنا، وسوف ننتصر بإذن الله.

بعد ذكر الحقائق الجوهرية الوطنية التي تتعلق بنضال شعبنا وصموده، وتمسكه بثوابته، واستقلالية قراره، وقدسية أراضيه ومقدساته الإسلامية والمسيحية، وحقه في مقاومة الاحتلال استنادًا إلى قرارات الشرعية الدولية، يكشف الرئيس بألمٍ الحزنَ العميقَ والاستغراب من الموقف الدولي تجاه ما فعله الكيان الصهيوني عمليًا وميدانيًا من نسف مباشر للقرارات والمبادرات والاتفاقات الدولية، وكل ما يتعلق خاصة باتفاق أوسلو الذي أصبح هيكلاً عظميًا. وقد اختصر الرئيس هذه الجرائم السياسية بالتالي: لقد تنصَّلت واشنطن وربيبتها من جميع الاتفاقات الموقَّعة معها، وقوَّضت حلَّ الدولتين من خلال ممارساتها العدوانية، والاعتداء على المقدسات الإسلامية والمسيحية، وبخاصة المسجد الأقصى، واستمرار الاستيطان الاستعماري على أرضنا وشعبنا، وتعمُّد الإجراءات الأحادية.

الرئيس وفي سياق التعاطي مع المستجدات الواقعية فلسطينيًا، وبعد أن كشف الواقع المؤلم على حقيقته حمَّل المسؤولية الدولية عمَّا فعله الاحتلال الصهيوني بأرضنا وبشعبنا بالجهات المعنية مباشرة، والتي هي صاحبة القرار في تحريك عجلة الحلول السياسية: إنني أدعو أن يبدأ الأمينُ العام للأمم المتحدة بالتعاون مع الرباعية الدولية، ومجلس الأمن في ترتيبات عقد مؤتمر دولي كامل الصلاحيات وبمشاركة الأطراف المعنية كافة، ابتداء من مطلع العام القادم، بهدف الانخراط في عملية سلام حقيقية على أساس القانون الدولي والشرعية الدولية، والمرجعيات المحددة، وبما يؤدي إلى إنهاء الاحتلال، ونيل الشعب الفلسطيني حريته واستقلاله في دولته بعاصمتها القدس الشرقية، وحل قضية اللاجئين استنادًا للقرار 194.

فالشعب الفلسطيني مصرٌّ ورغم الجراح النازفة، وعشرات آلاف الشهداء أن يواصل مسيرة الكفاح الوطني، مسيرة محمد جمجوم، وفؤاد حجازي، وعطا الزير، وعزالدين القسَّام وعبدالقادر الحسيني والقافلة تطول، وأن يشقَّ طريقه نحو الحرية والاستقلال.

وما لم يقلْهُ الثابتُ على الثوابت الوطنية الرئيس محمود عباس، وهو جوهر الموضوع في هذه المرحلة المعقَّدة والخطيرة، وتركَهُ لنا، بأنَّ كلَّ ما تقدم في هذا الخطاب التاريخي يحتاجُ إلى تشغيل المحرك الأساسي لهذا الجسد الفلسطيني، وهو الذي يمنح الطاقةَ الكامنةَ القادرة على التفعيل، واشعال الفتيل، وصناعة الأساطير، وقلب المعادلات لصالح فلسطين، لنكون أمام إنطلاقة ثورة جديدة، ومعركةِ كرامةٍ جديدة، وصمودٍ بيروتي جديد، وأُسطورةٍ غزاوية غلبت فيها الدماءُ إرادة الاحتلال، إنَّ هذا المحرِّك الأساسي هي حركة فتح الصلبة والمتماسكة، والأبية، التي صنعت المعجزات والتي ترفض إلاَّ أن تكون في المقدمة، وترفض إلاَّ أن تكون حركة فتح الأبيَّة، العصيَّة على كل من يسعى للتآمر عليها، أو إضعافها، أو استخدامها، فهي الضمانة، وهي التي أعادت لنا كرامتَنا وعزتنا، وهي عنوان أصالتنا، وهي الوحيدة القادرة على حَمْلِ الأعباء الثقيلة، والجسيمة، وصناعة التحولات المستقبلية والمصيرية. فهل يستطيع أبناءُ حركة فتح استنهاضَ حركتهم التاريخية، لتستعيد عظمتَها، ودورَها، فهي قلبُ الثورة، وهي أمُّ الجماهير، وهي المؤتمنة على وصايا الشهداء، والأسرى والجرحى، وهي صاحبةُ الخبرة المخضرمة في الضبط والربط، وأخذ القرارات المصيرية.

الحاج رفعت شناعة

عضو المجلس الثوري