تتزاحم ذكرى رحيل نخبة من رجالات الشعب والأمة العربية في أيلول من كل عام أسوة بكل شهور السنة، لا سيما وأن كل يوم من أيام السنة له في ذاكرة الشعب مكان وبصمة يمزج ما بين النكبة والمذبحة والنصر، ما بين جريمة الحرب والانجاز، ما بين الموت والبقاء، ما بين الإحباط والهزيمة وروح الأمل. هذه هي سيرورة وصيرورة حياة الشعب الفلسطيني، التي تسير في خط بياني متعرج صاعدًا للأعلى مع حركة التاريخ، وستبقى بوصلة الكفاح تمضي قدمًا حتى تحقيق كامل الأهداف الوطنية.
رجال رحلوا إلى دار الخلود الأبدي، بعد أن قدم كل منهم ما استطاع دفاعًا عن الحرية والكرامة والاستقلال والعودة، وعن الثقافة والمعرفة التنويرية، والارتقاء بمكانة ونهضة الأمة العربية.  صنع كل منهم تاريخه بجدارة واقتدار، لم يستسلموا لصعوبات وتعقيدات الحياة والمعارك والمؤامرات، ولا لطعنات الأخوة الأعداء. حمل كل منهم رايته متقدمًا الصفوف كرقم وعنوان وعلم من أعلام اللحظة التاريخية التي عاشها. قد لا أستطيع حصر كل الأبطال، الذين غابوا، وغيبهم الموت في مثل هذة الأيام. بيد أن محاولة استحضار بعضهم يشكل وفاءً لهم ولغيرهم ممن لم تسعفني الذاكرة على استحضار بطولاتهم ودورهم الرائد في الكفاح التحرري الفلسطيني والعربي. ومنهم:
أولاً، حلت اليوم  الإثنين الذكرى الخمسين لرحيل الزعيم الخالد جمال عبد الناصر. الرجل الذي تماهى مع روح ومصير القومية العربية، وحمل لواءها دون تردد، وسعى طيلة سنوات حكمه الـ16 للنهوض بشعوب ودول الوطن العربي الكبير. وحارب بجيش مصر البطل على أكثر من جبهة دفاعا عن الكل العربي، خاصة قضية العرب المركزية، فلسطين، وقدم تضحيات جسامًا وعظيمة قربانا عن حرية واستقلال وسيادة العرب على أرض وطنهم العربي الكبير من المحيط إلى الخليج. انتصر وهزم، أصاب وأخطأ، حقق أهدافًا وفشل في أخرى. لكنه لم يحد لحظة عن خياره القومي، وتجلى وتعاظم دوره ومكانته في المشهد الوطني المصري والقاري والعالمي، وكان أحد أبرز قادة حركة التحرر العالمي في القارات الثلاث: إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، استشهد في 28 أيلول/سبتمبر 1970. لم يرحل عبد الناصر، وسيبقى عنوانًا ورمزًا للقومية العربية إلى أبد الدهر.
ثانيًا، حلت أمس الأحد الذكرى الـ38 لرحيل القائد الوطني الكبير سعد صايل بطل معركة اجتياح بيروت بامتياز، الذي اغتالته يد الغدر والخيانة في البقاع اللبناني صبيحة عيد الأضحى المبارك، وهو متجه لمعايدة مقاتلي الثورة في 27 /9/1982 بعد مجزرة صبرا وشاتيلا، التي ارتكبتها العصابات الصهيونية والإنعزالية اللبنانية، والتي مرت ذكراها قبل أيام قليلة. وتم اغتيال الجنرال البطل أبو الوليد؛ لأنه رفض التواطؤ على قيادة الثورة؛ ورفض المساومة الرخيصة مع الجبناء من العرب، الذين شاؤوا تطويع قيادة الثورة بعد خروجها من لبنان في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 4/6/1982، وبعد حرب دامت 88 يومًا وقف أهل النظام العربي الرسمي صامتين، ولم يحركوا ساكنًا. لكن المغوار سعد صايل لم يهادن، ولم يساوم، ولم يبع القرار الوطني المستقل، وتمسك بثوابته الوطنية في وجه كل الطغاة الصهاينة وبعض العرب. سيبقى سجله الوطني ناصعًا للأبد.
ثالثًا، كما حلت يوم الجمعة الماضي الذكرى السابعة عشرة لرحيل المفكر والأديب والفنان إدوارد سعيد الفلسطيني الأميركي، صاحب مؤلف الاستشراق، الذي شكل نقلة مهمة في أوساط المفكرين والمبدعين في محاكاة نظرية الاستشراق، وكان نقطة الضوء الأبرز في إبداعه الفكري، حيث كشف فلسفة المستشرقين الغربيين الاستعمارية، ونمطية سلوكهم غير النزيهة، كما وأنتج العديد من المؤلفات، منها "تغطية الإسلام" و"القضية الفلسطينية" و"الأسلوب المتأخر" و"غزة – أريحا" ...إلخ، أضف إلى أنه كتب عن الفن والموسيقى. ولا يمكن للسطور القليلة أن تفي قامة فكرية وأدبية وفنية عبقرية كإدوارد سعيد حقه. سعيد كان حالة متفردة في العطاء والقيمة والمعرفة والإبداع. لم يمت ابن فلسطين الباسل والعالم، لأن ميراثه المعرفي والفني سيبقى علامة فارقة في سجل العطاء الفكري.
رابعًا، هذا وكانت لعنة أيلول عام 2007 حلت على رجل بقامة شعب، صاحب سيرة ومسيرة وطنية متميزة، عندما اختطف الموت الدكتور النبيل والمتواضع، حيدر عبد الشافي في 24/9/2007 عن 88 عامًا، قضى جلها في الدفاع عن قضية شعبه وأمته العربية خلال ترحاله من فلسطين إلى لبنان إلى الأردن إلى أميركا، ولم يستسلم، ولم ينحنِ للعواصف، وبقي نظيفًا، وخلوقًا، ومتمسكًا بالثوابت الوطنية، ورفض كل مظاهر الفساد، وكل الاتفاقيات، التي اعتقد أنها هددت مستقبل المشروع الوطني الفلسطيني. حيدر عبد الشافي، كان عنوانًا بارزًا للوطنية الفلسطينية، اعتقل في سجون الاستعمار الإسرائيلي، وكافح بشجاعة ضد كل الأخطاء والخطايا في الساحة الوطنية، ولم يهب أحدًا، وكان رمزًا متميزًا في مدرسة العطاء الوطني. رحل أبو خالد قبل 13 عامًا، لكنه ما زال خالدًا، وسيبقى مدرسة للنضال الوطني الصادق.
خامسًا، يوم الجمعة الماضي ترجل المناضل يونس الشيخ طه (أبو العبد يونس) بعد رحلة طويلة مع المرض. والرفيق أبو العبد يونس كان من المؤسسين لحركة القوميين العرب، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وأيضًا من المؤسسين لاتحاد العمال، وكان عضوًا في المجلس الوطني الفلسطيني. وتبوأ مقعدًا في المكتب السياسي للشعبية طيلة عقد من الزمان 1983/1993، ومَّثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في العديد من الدول الشقيقة في ليبيا والعراق، كما أنه التحق بمركز الأبحاث الفلسطيني، وعندما تم تفجيره أصيب أنذاك.
ابن قرية الزيب قضاء عكا، حيث ولد عام 1938 تشرب وعيه السياسي مع تراجيدية النكبة عام 1948، ومع تشرده مع أسرته إلى مخيمات اللجوء في لبنان، حيث قطن مع أسرته مخيم برج البراجنة في بيروت العاصمة اللبنانية، واصل الكفاح ولم يتخل عن حق العودة، ولا عن ثابت من ثوابت الشعب الوطنية، وكان رجلا خلوقا، ونبيلا، ومعطاءً، ووفيا لانتمائه الوطني والقومي. وسيحفظ السجل الوطني المكانة المتميزة لأبو العبد يونس، كأحد أبطال الكفاح الوطني التحرري.