لا اشتراطات على المصالحة، لكنّ تمكين الحكومة الشرعية من مهامها وعملها حسب النظام والقانون في قطاع غزّة كما تقوم به في الضفة، هو المعيار الأنجح لقياس قابلية "حماس" التعايش مع القانون، والتراجع عن عقلية الانقلاب، والاقتناع بمنهج التداول السلمي على السلطة، والأهم من كلِّ ذلك حسب اعتقادنا للتأكُّد من مدى ابتعاد "حماس" عن فكرة دويلة الجماعة والاقتراب إلى حد الاندماج مع فكرة دولة الشعب الفلسطيني.

قد تُحقّق "حماس" تهدئةً تُخرجها حكومة الاحتلال الإسرائيلي على مقاس مصالحها الأمنية، ورؤية إدارة ترامب الأميركية الساعية إلى تقزيم قضية التحرر الوطني للشعب الفلسطيني إلى مجرّد ملف إنساني (معونات ومساعدات مادية معيشية ورواتب) تتكفَّل دولة غنية في المنطقة بدفع مستحقاتها ومستلزماتها!!

تمكين الحكومة يعني بالنسبة للوطنيين الفلسطينيين تمكين ثوابت الشعب الفلسطيني على مسار التحرّر الوطني والدولة المدنية التقدمية الديمقراطية، التي من دونها لا يمكننا إقناع العالم بأنّنا الأصل الحضاري على أرض فلسطين التاريخية والطبيعية، ذلك أنَّ نظرة سريعة على تاريخ كل مدينة في فلسطين يمكننا اكتشاف عظمة الصور الحضارية التي تمثلها وترمز إليها، وكيف أنّها تشكّل بمجموعها لوحة فسيفسائية حضارية شبيهة بتلك التي تمتّعت بها دول عظيمة في المنطقة، فغزّة التي كانت قبل نحو ثمانية عشر قرنًا إحدى أهم سبع مدن حضارية في منطقة البحر الأبيض المتوسط الشرقية، كمركز إشعاع علمي وثقافي وروحي، لا يمكن رؤيتها منفصلة عن تاريخ نابلس أو أريحا أو عكا أو يافا وروح هذه المدن وأمها القدس.

لا ينظر الوطني الفلسطيني للمصالحة على أنَّها مجرد وثائق واتفاقيات مذيلة بتواقيع، أو مثقلة بمبادئ وبنود وتفاصيل زمانية ومكانية وجب تنفيذيها وحسب، بل باعتبارها الفقه السياسي والفكري والثقافي لمعنى وحدة الشعب الفلسطيني وأرضه كتعبير عن إيماننا بالوجود الذاتي والكوني، وبالوحدة الوطنية كعقيدة سياسية لا تخضع أبدًا لأيّ وقائع أو ظروف، ولا يؤثّر فيها تقلبات مناخ الأحزاب والقوى أيا كانت مشاربها، فالحزب أو الحركة أو التنظيم أو الفصيل الذي لا يتأسَّس على فكر وطني خالص، سيبقى بمثابة الحجر المتحرّك الذي سيتسبب بالانهيار عند أول هزة أو حملة خارجية.

تجارب الدول العربية التي خرجت من مرحلة انتداب الدول الاستعمارية الكبرى أثبتت فشلها، وراحت قلاعها تنهار الواحدة تلو الأخرى مع أول موجات الإرهاب الذي ساهم بتسريع عملية الاستقطاب المذهبي والطائفي وحتى العشائري والجهوي، والسبب أنّها لم تُعزِّز روح المواطنة، ولم تتَّخذ من الوطنية عقيدة، وإنَّما ذهبت إلى حد تقديس الكيان الحزبي والانتماء له على حساب تقديس الوطن والانتماء والإخلاص والوفاء له، فانهارت هذه الدول، وانهالت معاول الهمجيين الظلاميين الإرهابيين على معالمها الحضارية التاريخية، وكأنّهم يُبدّدون مستقبل الشعوب والدول، عبر تحطيم وتدمير رموزها الحضارية التاريخية، وهذا ما يريده المحتلون والمستعمرون الإسرائيليون الذين لا يتورّعون عن فعل أي جريمة من أجل إلحاقنا بالشعوب المنسية المنفية إلى الأبد.

نريد التمكين لأننا نريد صرحًا تعليميًّا واحدًا واقتصاديًّا واحدًا وتثقيفيًّا واحدًا، ورؤى للبناء الاجتماعي ونظريات وخططًا وبرامج للتحرّر والتقدّم والنمو والازدهار ينظّمها عقل وطني خالص.

نريد تمكين الحكومة لأنَّنا نريد نظامًا سياسيًّا واحدًا ينتزع احترام العالم، لنمتلك القدرة على انتزاع الحرية من الاحتلال، فالدول لا تحيا ولا تبنى بالدعاء ولا بسخاء المانحين ولا بالتبرعات، ولا حتى بقصص الانتصارات الوهمية.. فالعقول الوطنية، وحدها القادرة على جمع الإرادات والإبداعات وتوظيفها، وتثوير المجتمع، وتطهير بنيته من الموروثات الخبيثة، وتقديم أجيال تعتز وتفخر بانتمائها الوطني، وبتنافسها في ميادين العطاء.