نعتقد بضرورة إعادة الاعتبار لموضوع الحق التاريخي والطبيعي للشعب الفلسطيني في أرض وطنه فلسطين عند طرح القضية عموما والقدس خصوصاً، بما يحقق التوازن على الأقل بين طرحين الأول: يعتمد المقدسات (الرموز والأماكن الدينية) لبناء مواقف أو استحداثها أو حث الرأي العام على التفاعل مع القضية، فيما الطرح الآخر مرتكز على مبدأ الحقوق التاريخية والطبيعية والسياسية والقوانين والقرارات الدولية، وكذلك المنتوج الثقافي للشعوب والأمم الحضارية التي ثبتت اسم فلسطين ليس مجرد اسم علم وإنما حقيقة مادية جغرافية وبشرية سكانية منذ فجر التاريخ، ونتاج حضاري معلوم مدون ومؤرخ، تمكن أي باحث عن الحقيقة بتجرد استخلاص شواهد وبينات مادية لا يمكن للغزاة طمسها أو تدليسها.

تبقى المساحة الزمنية للمقدسات محدودة، تقاس منذ النشأة الأولى لعقيدة سماوية وحتى اليوم، أما المساحة الزمنية للحقوق التاريخية والطبيعية والبنية الحضارية لشعب فلسطين فهي أبعد وأعمق بكثير، ويكفي القول أنّ (أريحا) هي أول مدينة مأهولة في الدنيا لإثبات ما نذهب إليه، آخذين في الاعتبار أن بدايات أزمان الرسائل السماوية باتت معروفة للعالم، فيما العالم نفسه يعلم أيضا أنّ معنى الشعب والدولة قد نشأ وتجسد على الأرض بأشكال متعددة قبلها بآلاف السنوات، حتى وإن اتخذت لنفسها مصطلحات أخرى كالإمبراطورية، أو المملكة، لكن فكرة الدولة بنظامها القائم على القواعد الثلاث الأرض وسلطة القانون والشعب، كانت موجودة، وقدم الفلاسفة والحكماء تصوراتهم لأنظمة سياسية (جمهوريات) يمكننا استخلاص التشابه الكبير بينها وبين الدول الديمقراطية في عصرنا الحديث، كمملكة سبأ، ودولة الفراعنة في وادي النيل، وقوانين العين بالعين والسن وبالسن الآشورية، أما الإغريق والرومان فلجمهورياتهما وعاصمتيهما روما وأثينا جزء رئيس مهم من مكتبة التجارب الإنسانية في موضوع الفكر والنظام السياسي والاجتماعي وأركان الدولة.

تتغير حدود الجغرافيا المرسومة على أسس دينية، لكن الحدود الوطنية للشعوب تبقى قائمة حتى لو وصلت في زمن ذروة القوة لأن تصبح أشبه بالحدود القارية، ما يعني أنّ الاعتداد بالمساحة الزمنية للمقدسات يبقى في إطار الاعتداد بحدود الجغرافية الوطنية، ذلك أنها جزء أصيل من مكون الهوية الوطنية، بخصائصها الثقافية والحضارية الإنسانية، فإنسان هذه الأرض فلسطيني أولا وأخيرا منذ فجر التاريخ ومنذ بداية نشوء المجتمع الإنساني، مازال العلماء يبحثون عن بداياتها، وكلما وصلوا إلى حلقة ظنوا أنها الأولى اكتشفوا أن من قبلها سلسلة حلقات أيضا.

عاد الذين غزوا بلدانا وأقطارا في العالم وساروا بحملاتهم الاستعمارية الاحتلالية تحت يافطات دينية إلى مواطنهم الأصلية في نهاية المطاف بغض النظر عن تأثيراتهم الايجابية أو السلبية، وعن شكل العودة، هزيمة كانت بعد حين، أو انسحابًا طوعيًا، أو قسريًّا نتيجة ثورات أهل البلاد الأصليين، أما اليوم فان العالم لم يعد يصدق مروجي هذه اليافطات، وبات يمتلك مناعة كافية، تحميه من الانزلاق في صراعات وحروب دينية، مهما بلغت دقة تزوير المراجع الدينية، ومهما بلغت كثافة المصطلحات الدينية والمقدسات في خطاب الحرب والصراع الديني.

ارتكازاً على ما تقدم وباعتبار إيماننا بتكامل الحضارات والثقافات الإنسانية، وبأن مصطلح حروب وصراع الحضارات والثقافات ما كان إلا لضرب مبدأ السلام الفردي والجمعي، وتضليل وعي الإنسان، فان مهمتنا ونحن ننتصر لقضيتنا، وجوهرها وروحها القدس هي استحداث أدق حالات التوازن في طرح قضية المقدسات باعتبارها شأنًا إنسانيًا،وعاملاً في ترقية النفوس البشرية، تطهرها من تعاميم العنف وتقديس سفك الدماء باسم الله والرب، وتعزز وشائج السلام والمحبة بين الشعوب بدون ادني فوارق أو تمييز، وبين طرح الحقوق التاريخية والطبيعية والسياسية والقانونية باعتبارها قاعدة السلام والأمن والاستقرار في أي مكان في العالم، تؤمن لأتباع العقائد والديانات الحرية والسلام.