بقـلم/ محمد سرور

تاريخيا لم يكن خيار حركة حماس المقاومة المسلحة للإحتلال. والتغير الذي طرأ على سياستها لجهة التزام ذلك الخيار سببه انشقاقات عدة تعرضت لها الحركة منذ أوائل خمسينيات القرن الماضي وصولا إلى أواسط الثمانينات منه عندما أسست حركة الجهاد الإسلامي تيمناً بالثورة الإسلامية في إيران.

لم تكن حماس تعتمد سياسة معادية لفصائل المقاومة الفلسطينية فقط، بل تعتبر نفسها البديل الإسلامي لمنظمة التحرير الفلسطينية العلمانية والمفرطة بحقوق الشعب الفلسطيني. ولأن العدو كان يدرك ذلك، ترك المؤسسات الإسلامية التي تمتلكها الحركة تحت مسميات مختلفة تعمل وسط المجتمع الفلسطيني في الوقت الذي كانت فصائل المقاومة تخوض مواجهاتها اليومية مع الإحتلال وتدفع نتيجة ذلك فاتورة الملاحقة والتصفية والسجن وكل ما يخطر وما لا يخطر في البال.

بناء المجتمع الفلسطيني على أساس القيم الإسلامية – برنامج الأخوان المسلمين- والإمساك به من قاعدته هو الطريق الأمثل للسيطرة عليه وفرض تلك القيم، خاصة بعد أن عقدت جماعة الأخوان العزم على الوصول إلى السلطة بناء على تفاهمات ثنائية مع الأميركيين وغيرهم  في اكثر من بلد- أفغانستان وتونس ومصر أمثلة على ذلك.

 ولأننا لا نريد الإستطراد في الشرح التاريخي لمسارات الحركة نقول: المسيطر على قرار حماس اليوم هم صقور ما يسمى "كتائب عز الدين القسام"، بالطبع لهم مراكز قوة في القيادة الجديدة للحركة التي انتجها مؤتمرها الأخير الذي توجت حلقاته في القاهرة مؤخرا، لكنها ليست سوى الملحق بالقيادة الميدانية التي تتولى شؤون إدارة القطاع اليوم. الكتائب القسامية تمسك بورقة الجهاز العسكري المنتشر على الأرض وما يمثل ذلك من مصالح ومداخيل خيالية تنتج عن السيطرة على المعابر والأنفاق والصفقات المضمونة الربح، بسبب دور الشريك الذي يلعبه هذا أو ذاك من قياديي حماس النافذين، إضافة إلى ال 15 مليون دولار التي تصلها شهريا من الحكومة الإيرانية.

حجر العثرة الأكبر الذي يعترض طريق المصالحة الوطنية اليوم تمثله هذه الكتائب.

بالطبع خطاب القيادة القسامية يتحدث عن المقاومة وتوازن الرعب وعسكرة المجتمع والمواجهة مع الإحتلال، يوازيه خطاب آخر حائر بين البراغماتي والفائق التشدد لجهة العلاقة مع السلطة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية، مقابل هدنة غير محددة الأجل مع الإحتلال وتدوير زوايا علاقات ملتبسة مع الأميركيين بوساطة أكثر من جهة عربية. أي أن المسألة لا تتعلق بالمسار السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية ومعه خيار المفاوضات والحلول السلمية، بل بدوام سلطة حماس على أرض قطاع غزة وبكل الوسائل والأساليب الترغيبية والترهيبية التي تنتهجها هذه السلطة. فالأهم في جدول حماس هو السيطرة على ذاكرة الشعب، وبعد ذلك استبدالها بثقافة حماس كذاكرة وحيدة للمستقبل الفلسطيني، تقوم على أساس نسف كل ما تراكم من تضحيات قدمها التعدد النضالي الفلسطيني، وعلى مدى عقود سبقت ولادتها. كذلك تعميم ثقافتها على انها الإطار الأخلاقي الواجب التزامه والتقيد بمضامينه كافة، والاّ تتم معاقبة المتجاوزين هذا النموذج، دون الحاجة إلى الأمثلة والشواهد على هذه الممارسات. 

ولأننا في أجواء نكبة فلسطين – 15 أيار – لا بد من التنوية إلى كون الإنقسام الذي أحدثته حماس في المجتمع الفلسطيني شكل النموذج الثاني للنكبة الأم، وفاض عنها بما أنتجه من عداوات وثارات لن ينساها الذي دفعوا من جلودهم وكراماتهم فاتورة الأعمال الإجرامية التي قامت بها جماعات ما يسمى "كتائب القسام والشرطة الحمساوية"، التي أيقظت الجميع على حقيقة سلطة حماس الظلامية-القمعية. ولن ننسى ما أنتجه الإنقلاب الشؤوم من ضرر على القضية ومكانتها ومركزية دورها في المنطقة والعالم، وما جلبه من تلاعب بمكوناتها وموقعها، حين جعل منها ورقة للتجاذب والإستقطاب بين هذا المعسكر أو ذاك، فيما استثمرها العدو وبإتقان للتهرب من كل استحقاق وجعل من الإنقسام لغة مناسبة له للإمعان في جرائمه المتعددة الأشكال والمعاني.

إن الغالبية العظمى من المتابعين للشأن الفلسطيني والعارفين بحقيقة مشروع حماس- الأخوان المسلمين، لن تغشهم الصور التذكارية والمصافحات بين قيادتي حماس وفتح في القاهرة وغيرها. ولن يصدقوا الوعود التي قطعها وفدا الحركتين على نفسهما بتشكيل حكومة الوحدة الوطنية خلال الأشهر الثلاثة القادمة، لأن قيادة حماس لا تملك القدرة على تنفيذ ما اتفق عليه بسبب فقدانها السيطرة على قرار غزة. كما أن مبادرة هنية بمنح الشيخ يوسف القرضاوي جواز السفر الفلسطيني تماد إضافي في مسألة الإنفصال السياسي عن المركز- أي الرئاسة، وإعلان غير مباشر عن ابتعاد مسألة المصالحة  عن سكة الواقع التي تسير مشروع حماس في القطاع.

فزيارة القرضاوي إلى قطاع غزة، كانت زيارة رعوية إلى إمارة يحسبها الشيخ القرضاوي من متممات مهامه المتصلة بالقسم الغزي لحركة الأخوان المسلمين– بالمعنى السياسي لا الروحي للكلمة. وهي منحت المتسلطين على القطاع وأهلة جرعة إضافية من التجبر والإستعلاء السياسي والسلوكي ضد كل المعنيين بالقضية وكل الساعين لرأب الصدع الذي أصاب البنى الوطنية والإجتماعية في الكيانية الواحدة.

انحناءة هنية على يد المرشد والملهم لجماعة الاخوان في فلسطين وتقبيلها كانت أبعد من المبايعة، وتصل حد الولاء والإسترشاد بفكر وفتاوى الشيخ، الذي لا ينتسب لعالم الديمقراطية والحداثة والتطور التراكمي لتجارب الشعوب في تولي مصائرها والدفع بها نحو الصالح لمستقبلها والأفضل لمصالحها، هي مبايعة له كونه يعمل على إقامة وإدامة دولة الخلافة بكل معانيها وأبعادها الخالية من الإحترام لأهل الفكر والثقافة والمعرفة بشؤون القيادة. تلك الإنحناءة عنت وبوضوح أن مكان حماس حيث يريدها الشيخ القرضاوي أن تكون كاملة الولاء والإلتحاق به كمرشد أعلى لهيئة علماء المسلمين في العالم.

فحين يزور القطاع، ويخصص بالزيارة جماعته حصرا، دون إذن من المعنيين الرسميين والشرعيين ودون تحفظ على ممارسات حماس العدوانية ضد أبناء غزة، فهو يعطي الإذن الشرعي والسياسي باستمرار تلك الممارسات وبرضاه عن كل ما تقوم به حماس من ارتكابات وتجاوزات.

وإذا كان رسول ولي أمر الشيخ يوسف القرضاوي- السيد وزير خارجية قطر- قد فاجأ الوفود العربية بالحديث عن الإستعداد العربي لتبادل أراض مع الإحتلال الإسرائيلي، وبذات الوقت يزايد على الكون مجتمعاً بالحرص والتشدد تجاه القضية الفلسطينية واسترجاع الشعب الفلسطيني حقوقه المغتصبة كاملة، فإنه يمارس علينا تعمية متعمدة وفاقعة في معانيها ودلالاتها الأخلاقية الخالية من الصدقية والمصداقية.

لقد عودنا الشيخ القرضاوي ومعه جماعة الأخوان ثنائية الخطاب والموقف. فالذي يحق له ولجماعته لا يحق لغيرهم، كالموقف من الكيان الصهيوني والعلاقة مع الأميركي ومخاطبته وتعريف أنظمة الحكم ومنهج حياة المجتمعات العربية والإسلامية.

إذاً دخول الشيخ القرضاوي غزة يمثل استخفافا وتحديا للعقل الفلسطيني، كون الزيارة لا تعني زيادة جرعة المقاومة ولا تشجيع التيار المعيق للوحدة الوطنية على سلوك طريق التوافق والتلاقي، بل ذهب لتشجيع الطغمة المسيطرة على القطاع على الإستمرار في القبض على القطاع ومصير أهله. وإذا كان سماحته حريصاً وغيوراً على مصلحة الشعب الفلسطيني كان عليه أخذ العبرة من مسيرة الإنطلاقة التي وضعت حماس في حجمها الحقيقي وعرتها أمام الملأ، فيما قد يكون من أسباب الزيارة أن يهمس لجماعته بعدم التفريط بالكنز الغزي وبأي ثمن. وللأسف، خاصة بعد الزيارة العتيدة، أصبحنا نرى حظوظ الإتفاق على إنهاء الإنقسام أبعد من ذي قبل بكثير.

وإذا كان الرد الأولي لرئيس وزراء حكومة العدو على تصريحات السيد حمد بن جاسم حول تبادل أراض بين الفلسطينيين وسلطات الإحتلال بان "المشكلة ليست على الأرض، بل حول الإعتراف بيهودية دولة إسرائيل". لذلك نعيد صياغة السؤال : حماس حركة مقاومة- حسب خطابها الذي نقرأه كل يوم- وحضرة وزير خارجية قطر يمثل البعد الأيديولوجي- السياسي لصاحب الفضيلة الشيخ القرضاوي، وهو الذي ارتجل مسألة تبادل الأراضي بصيغتها المفتوحة، وغير المحددة بنسبة واحد ونصف بالمئة، مما يعني تمييع وضياع مبادرة السلام العربية التي تقدمت بها قمة بيروت العام 2002. الا يحق لنا أن نشك كثيراً بدور دويلة تكاد لا ترى في المدى الإقليمي تلعب دوراً أكبر بكثير من حجمها الفعلي- دوراً يفوق مكانة دولة عريقة وعظمى، متجاهلة ومتجاوزة دولا وكيانات كبرى- على الأقل السعودية ومصر؟.

زيارة الشيخ القرضاوي تعني فقط: إتمام الإنفصال وأخونة القطاع.