الطفلُ استفاق مشرّداً

الشعب الوحيد الذي أكل حصرماً ولم يقطف عنباً هو الشعب الفلسطينيبأسره، فلا كباره، ولا صغاره، استطاعوا ان يروا العنب ناضجاً، ليقطفوه، وصار هذا الشعبمطارداً بالحرمان والتشرد واللجوء، حتى اصبحت هذه المفردات من لوازم قاموسه اللغوي،كثير من البشر يتشرّدون ويلجأون الى أمكنة متعددة، ولكن هذا لا يُحسب تشرّداً ولجوءاًبالمعنى السياسي والوطني، لأنه ناجم عن اختيار إرادي، ليس له علاقة بعملية تهجير وطردقسري. في حالة الفلسطيني، فإن التشرّد واللجوء، نشأ بفعل مؤامرة دولية أرغمت هذا الشعببشكل جماعي للتشرد عن دياره، واللجوء الى الدول المحيطة بفلسطين، ثم تلاها هجرات متتاليةالى مختلف دول العالم خلال فترة اللجوء والتشرد، في حالتنا نحن الفلسطينيين، يحمل الامرفي طياته وضعاً سياسياً وانسانياً واجتماعياً ووطنياً، لكن في الحالة الأولى، لا يتعدىعن كونه وضعاً إنسانياً بحتاً. خلال مسيرة المعاناة التي يعيشها الفلسطيني، أخذ يبحثعن مكان يجد فيه مستقرّاً لتأمين لقمة العيش، مترافقة مع نضال وطني مرير لا زال مستمراً،ولا احد يعرف ما ستؤول اليه هذه الحالة، أقله في المستقبل المنظور، ولعلنا ندرك بوضوحبأن الربط بين مراحل التشرّد واللجوء، وانعكاساته على عموم الادب والرواية له أهميتهفي نقل الحالة الفلسطينية وابراز مضامينها من خلال الانتاج الادبي، إن الكثير من هذاالانتاج ارتقى الى المستوى العالمي في نقل حالة هذا الانسان، وتصويره بطريقة مبدعة،ما خلق أيضاً نصاً موازياً لما يعانيه على كافة الصعد في حياته اليومية على الصعيدالوطني، والسياسي، والإنساني. فغسان كنفاني، هو النموذج  الفلسطيني الذي يمكن الذهاب الى سيرته الذاتية،وما تخللها  من تشرّد ولجوء ومعاناة، وصولاًالى انتاجه الادبي والروائي والقصصي، حيث تمحور نتاجه الادبي حول قضية الارض.

 

اللجوء مكتوب على الجبين

 لجأ كنفاني في مجموعته القصصية (أرض البرتقال الحزين) الى الواقع بما فيه منوقائع واحداث وشخصيات فلسطينية حقيقية للتعبير عن تجربة انسانية ووطنية، وهاجس الأرضلديه كان يتساوق مع الاحداث التي واكبت النكبة وتداعياتها بطريقة مؤثرة منذ بداياتها،فكتاباته تركت أثراً عربياً وعالمياً لمدلولاتها الواقعية النابعة من تجربة شخصية صادقة،فمعاناته للاحداث "وبشكل شخصي"، جعله لا يتخيل، ولا يؤلّف من نسج الخيال،بل أخذ ينقل احداثاً، ووقائع حصلت معه، فهو حين كان طفلاً انتابه فرح الانتقال بشكلعادي من مدينة الى اخرى، من يافا الى عكا، معتقداً ان ما يحصل هو مجرد نزهة عادية جميلةتُبعد عنه الواجب المدرسي يقول:

"عندما خرجنا من يافا الى عكا لم يكن في ذلك اية مأساة.. كناكمن يخرج كل عام ليمضي ايام العيد في مدينة غير مدينته. ومرت ايامنا في عكا مروراًعادياً لا غرابة فيه، بل ربما كنت لصغري وقتذاك استمتع بتلك الايام لأنها حالة دونيودون الذهاب الى المدرسة"(أرض البرتقال الحزين.

 

قصة اللجوء في حقيبة السفر

 لم يكن غسان كنفاني يدرك ماذا ينتظره في مقبل الايام، ولم يكن ليستشرف الصورةالتي ستؤول اليها اوضاع الفلسطيني عموماً، فالتشرّد داخل الوطن هو غيره خارجه، ولمتكن الغربة بعد قد خرجت من مخبئها في خيال أحد! ولكن هذه الصورة بدأت تتوضح وتتكشفرويداً رويداً، لأن حجم المؤامرة والمجازر المرتكبة بحق الفلسطينيين لتهجيرهم وتشريدهمكانت تفعل فعلها، وتترسخ في الاذهان، خصوصاً عند من يملكون ملكة الرؤيا النافذة، يقولايضاً:" ولكن في تلك الليلة بدأت الخيوط تتوضح" (نفس المصدر)، وحين جرفتهشباك المؤامرة وعائلته من عكا الى لبنان، وصف عملية التهجير هذه بواقعية محزنة:"وقبل ان أثبّت نفسي في وضع ملائم كانت السيارة قد تحركت... وكانت عكا الحبيبة تختفيشيئاً فشيئاً في متعرجات الطرق الصاعدة الى رأس الناقورة وعندما وصلنا صيدا في العصرصرنا لاجئين". (نفس المصدر). بدأ كنفاني يتنقل من تشرّد الى آخر ومن لجوء الىآخر، فأخذ حقيبة سفره من لبنان الى سوريا، والى الكويت، ثم عاد مرة اخرى الى لبنان.

اغتيال البطل

 لكن يد الغدر كانت له بالمرصاد فاغتيل في العام 2791، بعبوة ناسفة وضعت في سيارتهفراح ضحيتها مع ابنة شقيقته. وهذا يثبت ان عملية المطاردة والقتل تتم ايضاً خارج ارضالوطن من قبل هذا العدو. فغسان عاش التشرّد حتى الشهادة، ومأساة اللجوء منذ الصغر،وأحسّ مرارتها وقت كانت تضرب في وجدانه عند الكبر، تحمّل عبء التشرّد طفلاً كما تحملهفي شبابه، يقول: "عندما  ابتعد عن الداركنت ابتعد عن طفولتي في الوقت ذاته، كنت اشعر ان حياتنا لم تعد شيئاً  لذيذاً سهلاً علينا ان نعيشه". (نفس المصدر).حمل همّ القضية الى ابعد الحدود، ورسم الشخصية الفلسطينية في ابعادها الانسانية والوجدانيةوالوطنية، وما تختزن في احشائها من حنين الى الارض والوطن طالما بقيت هذه الشخصية مشرّدةلاجئة في ارض غير ارضها. أما البرتقال فـأخذ حيزاً موضوعياً، وعنصراً قوياً في معادلةالارض والحنين، فهو يرمز الى الارض والانسان، ويتنامى مع مفاصل القصة واحداثها، ففيالطريق من عكا الى لبنان:"حقول البرتقال تتوالى على الطريق... كانت النساء قداشترينا برتقالات حملتها معهن الى السيارة، ونزل ابوك من جانب السائق، ومد كفه فحملبرتقالة منها.. اخذ ينظر اليها بصمت.. ثم انفجر يبكي كطفل بائس.." وحين كان ينظر"الى صف السيارات الكبيرة يدخل لبنان طاوياً معارج طرقاتها في البعد عن ارض البرتقال".ظلت هذه الصورة في رأسه، لم تغادر الارض وذكرياتها وبساتينها أعماله، كما لم تغادرروحه، فهو متجذّر بعمق اصيل في هذه الارض، وتوقه جارف اليها، وهناك رباط مقدس يربطبينه وبين ربوعها، وفي هذا تأكيد لأهمية الارض بالنسبة اليه، ولكل فلسطيني يكابد مآسياللجوء والتشرد في ارجاء المعمورة، صوّرت قصة ارض البرتقال الحزين الهجرة والتشرّدفي أدّق مراحلها، فإذا كان الحزن بادياً على الوجوه اثناء المسيرة المحزنة في الطرقاتالوعرة في الهجرة الاولى، فإن طريق الجلجلة كان متفرعاً الى طرقات أخرى  أودت بحياةالكثيرين اثناء تلك المسيرة المعذبة! فكم من الاسر التي فقدت معيلها؟ وكم من الابناءالذين فقدوا امهاتهم وآباءهم؟ استطاع كنفاني فعلاً بقدرته الخارقة ان يدخل الى الحقيقةاليومية لإنسان المخيم المؤلمة لتصوير معنى اللجوء ومرارته بأساليب تعبيرية وذائقةفنية عالية، وقدرة فائقة على التشخيص والتجسيد في رصد يوميات ذلك اللاجئ المنكسر، واللاجئالمنتفض. ولكن تبقى الحاجة ضرورية لتناول الحياة الكاملة لفلسطينيي المخيم بكل قسوتهاوألمها، بدءاً من مراحل تشرده الأولى التي صاغت اسطورته في المقاومة، وصولاً الى واقعهالحالي باعتبارها الصورة الحقيقية لرحلة هذا الشعب في الشتات، وتقديمه كإنسان، بعيداًعن نمطية البطل.

 

الآباء والأبناء يضرسون

 استطاع غسان كنفاني من خلال أعماله ان يقدم أكثر من نموذج لتلخيص فكرة اللجوءوالتشرد، وتجلى ذلك في ارض البرتقال الحزين/ وعائد الى حيفا/ ورجال تحت الشمس، ففيالأولى قدم مشهدية مأساوية لحالة التشرّد، خصوصاً في صورة الأم التي حملت وسادة ظناًمنها بأنها طفلتها، وحين وجدت نفسها في الباخرة ولم يستجب لها القبطان لتعود وتأتيبطفلتها، قفزت الى البحر فكان نصيبها الغرق. أما النموذج الآخر فكان في عائد الى حيفا،الذي تناول فيها قصة أسرة فلسطينية خسرت الوطن والابن وأمل الأم بالعودة واسترداد ولدها،وبعد بحث مضنٍ وجدت ابنها "خلدون"، وقد اصبح جندياً يخدم في الجيش الاسرائيلي،فرفض العودة معها، كما رفضت امه بالتبني "ميريام" هذا الامر، وبين هذين النموذجينهناك الانسان الفلسطيني الذي يبحث عن لقمة العيش في ارض ما، وبلد ما،  حتى يتمكن من تأمين الحياة الكريمة  بحدها الادنى لاسرته، وهذا ما ظهر في قصة  في رجال تحت الشمس التي نقرأ فيها فصلاً من فصولنكبة فلسطين " لم يكن اي واحد من الاربعة يرغب في مزيد من الحديث .. ليس لأن التعبقد انهكهم فقط، بل لأن كل واحد منهم غاص في افكاره عميقاً عميقاً.. كانت السيارة الضخمةتشق الطريق بهم وبأحلالهم وعائلاتهم ومطامحهم وآمالهم وبأسهم وقوتهم وضعفهم وماضيهمومستقبلهم.. كما لو انها آخذة في نطح باب جبار لقدر جديد مجهول.. وكانت العيون كلهامعلّقة فوق صفحة ذلك الباب كأنها مشدودة إليه بحبال غير مرئية".

هذه النماذج رموز معبرة عن هول المأساة والتشرد واللجوء الذيلحق بالفلسطينيين على الصعيد المادي والمعنوي والوطني، استطاع غسان كنفاني ان يرتقيبالحدث الفلسطيني التاريخي واليومي الى مستوى رفيع من العمل الفكري المبدع، فهو عملناتج عن معاناة صادقة عايش فيها انعكاس ألم الرحيل والتشرد واللجوء والاغتراب، فغسانكان مسكوناً بهاجس المطالبة بأن يقدم الحدث بصدق وأسلوب شفاف وتعابير تنم عن واقع وجدانيوانساني، فأعماله كانت ومازالت وستبقى تحاكي روح العصر، وتتقدم بقوة الى مصاف الادبالعالمي. إن صياغة الاحداث الملتقطة من الواقع الفلسطيني التي قدمها كنفاني في أعمالهالروائية، إن كانت من أرض الوطن، أو من مناطق اللجوء أو من خلال السعي الدؤوب لممارسةالإنسان لحقه في أن يكون بشرياً على هذا الكوكب، وانصهار كل هذه الاحداث في مجرى واحدباتجاه الأرض والحقول، وكشف الغبن والظلم اللاحق بهذا الانسان. كلها تسلط الضوء علىالأوجه المختلفة لحالة اللجوء والتشرد بالنسبة للانسان الفلسطيني الذي اقتُلع من أرضهاقتلاعاً ولم يبق امامه سوى خلع حالة القهر هذه بشتى الطرق طالما بقي خارج أرضه ووطنه.