الشعب الفلسطيني الوحيد الذي كتب ملاحمه وأساطيرهالحقيقية والتي هي ليست من نسج الخيال، كما أبدع في صياغتها رسماً بيانياً لكفاح الشعبفي صموده نحو التحرر والاستقلال، وأغنى تجربته النضالية مصدر قوته بالثبات والصمودعبر الظلم التاريخي من الاحتلالات والاضطهادات المتعددة، ولم تكن  هذه التجربة إلا في إطارها السياسي الوطني التيجمعت على قاعدتها مجموع الشعب الفلسطيني حول قضيته الوطنية.

 

17/6/1930، التي جاءت بعد عام على ثورة البراقحين أعدم الانتداب البريطاني ثلاثة شبان فلسطينيين شاركوا في تلك الانتفاضة الشعبيةضد تدنيس اليهود لحائط البراق وادعاءاتهم بملكيته، خلّد الشاعر إبراهيم طوقان ذلك اليومالوطني بقصيدته الرائعة الثلاثاء الحمراء التي يقول في مطلعها:

لما تعرض نجمك المنحوس ... وترنحت بعرى الحبال كؤوس

ناح الأذان وأعول الناقوس ... فالليل أكدر والنهار عبوس

طفقت تثور عواصف وعواطف... والموت حيناً طائف أو خائف

والمعول الأبدي يمعن في الثرى... ليردهم في قلبها المتحجر

وذلك تيمناً بالشهداء الثلاثة فؤاد حجازي، محمد جمجوم، عطاالزير، كل شعوب العالم ساهم مفكروها بكتابة أساطيرهم البطولية لتجييش الشعب على حبالوطن والدفاع عنه، ولإبقاء الذاكرة الشعبية متيقظة وبالغريزة عداوة لأي غاز دخيل،الفلسطينيون وحدهم منذ مائة عام ينسجون حكاياهم الشعبية على تضاريس الوجع والقهر والظلم،يجمعون مفرداتها مثل لفحات الريح تحرك الرماد عن الجمر من مرحلة إلى أخرى وبأشكال متعددةوبانطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة بقيادة حركة فتح في 1/1/1965 وهي النموذج الأرقىالذي استمد كل التجربة النضالية ووضعها على سكتها الصحيحة سطورها من رجال ودم وشهداءوأسرى وشبان يقبضون على ثوابتهم كالقابضين على الجمر يتقدمون نحو القمة يحملون صخرةالوطن...

تقضي الضرورة بنبش ذاكراتنا يومياً حافزاً وشحنته تدفع باتجاهالهدف. والثلاثاء الحمراء بمعلقاتها الثلاث ملحمة من سيرة شعب كانت له وما زال كل يومثلاثاء حمراء. ولم تصل إلى مستواها الإنساني بمعزل عن سياقها التاريخي السياسي، لأنالمسألة ترتبط بالحركة الوطنية الفلسطينية ومفاصلها الكفاحية وأبعادها التحررية المطالبةبالاستقلال والحرية ورحيل الاحتلال.

منذ وعد بلفور عام 1917 والانتداب البريطاني ليساند ويدعمالحركة الصهيونية بتشجيع الهجرة اليهودية إلى  فلسطين، وذلك من أجل تحقيق هدفها بإقامة وطن قوميلليهود على حساب الشعب الفلسطيني، كذلك الشعب الفلسطيني لم يقف مكتوف اليدين أمام هذهالسياسة وممارسة الانتداب. لقد ضحى بالغالي والرخيص حين كان يتدافع الشباب الفلسطينيالأعزل بالهبات الشعبية مدافعاً عن حقوقه الوطنية ويسقط منه الشهداء والجرحى، ويتمسوق المئات إلى المعتقلات والزنازين، وشهدت فلسطين الثورات المتعاقبة في ظل أعقد الظروفالموضوعية والذاتية معتمدة على الشعب الفلسطيني في مواجهة المخططات الاستعمارية وأهدافهاوحيث كان الانتداب البريطاني يمارس إرهابه المنظم في قمع الانتفاضات المتتالية بإصدارالقوانين الظالمة وسياسة الترهيب والبطش والتنكيل ومصادرة الحريات وحقوق الإنسان والأحكامالعرفية التي حكم فيها بالإعدام على عشرات المناضلين الفلسطينيين وكان من نتائج ذلكالإجهاض السياسي لتلك الثورات مما يؤشر إلى أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية في تلكالمرحلة من تاريخ الشعب الفلسطيني.

 

الثلاثاء الحمراء قضية وطنية.

حركت قضية إعدام الشهداء الثلاثة في سجن عكا المشاعر الوطنيةوخروج الجماهير الفلسطينية في مراسيم جنازاتهم استنهاضاً وطنياً كبيراً تأججت فيهاالمشاعر والأحاسيس إلى نبض شعبي على امتداد فلسطين، وقد عمت الاحتجاجات والمظاهراتوردود الفعل بالإضرابات ومهاجمة قوات الاحتلال البريطاني، والمواجهات مع المهاجريناليهود. وكانت دافعاً للحركة الوطنية الفلسطينية المستقلة بالحركة الدينية وعلى رأسهاالمرحوم الحاج أمين الحسيني والحركة السياسية للأحزاب العائلية الكبيرة لقيادة الجماهيرالفلسطينية ومع الأسف لم تضع تلك القوى أي استراتيجية للخلاص الوطني وشكلت نقطة ضعفلغياب التنظيم ورؤيته الصحيحة لمواجهة الاحتلال البريطاني ومن جهة ثانية حالة التخلفوفقدان الوعي السياسي والاجتماعي للمجتمع الفلسطيني. ورغم ذلك ظل الانتماء الوطني العاملالأساسي والمحرك المنظم للعملية النضالية تأخذ أشكالاً فردية وحيناً جماعية ضد الاحتلالالبريطاني وعملائه والمستوطنين الجدد.

يمكن القول أن إعدام الشهداء الثلاثة فؤاد حجازي ومحمد جمجوموعطا الزير قد وضع المسألة الوطنية تحت مجهر الصراع والتهيؤ لمرحلة نضالية تتطلب الاستعدادفي ساحة الصراع حيث ظهرت الحركات الثورية الصغيرة في مرحلة الثلاثينيات أمثال حركةالشهيد البطل محمد المحمود الملقب (أبو جلدة) وهو من قرية طمون قضاء نابلس والذي ألقيالقبض عليه وحكم بالإعدام، كما في عام 1935 حين اكتشفت حادثة تهريب السلاح لليهود فيميناء يافا والتي بدأت تدفع باتجاه الانفجار المسلح.

كما ظهرت حركة الشيخ عز الدين القسام ولكنها لم تستمر طويلاًحين خاضت معركة غير متكافئة مع الجيش البريطاني عام 1935 في يعبد قضاء جنين. لقد دفعتتلك الحقبة نحو مرحلة جديدة للنضال الفلسطيني والذي ترجم بثورة 1936 وهي من أعنف وأشرسالثورات التي خاضها الشعب الفلسطيني وأكثرها زخماً وبطولة كما ترافق مع الإضراب الكبيرلمدة ستة أشهر.

 

الثلاثاء الحمراء والبعد الإنساني.

الموروث الثقافي والإبداع الإنساني منذ العشرينيات حتى النكبةما زال خارج فصل الرصد والتوثيق إلا القليل منه، إذ يتطلب ذلك تخصصاً لتسجيله كإرثللسلوك الاجتماعي ونمط الحياة والتي هي جزء لا يتجزأ من مكونات المجتمع الفلسطيني فيعاداته وتقاليده وأمثاله الشعبية ودوره في عملية البناء والتطور وشكل الثقافة وجوهرهالرفد الذاكرة الشعبية للتاريخ الوطني ومراحله المتتالية والتي شكلت هويته الإنسانيةوعمق علاقته بالأرض والاستماتة بالدفاع عنها حتى الاستشهاد.

الثقافة الشعبية الفلسطينية في مرحلة الثلاثينيات كانت الوعاءالذي يعكس ما في داخله ومرآة عاكسة للمظهر الإنساني وجوهر الشعب في ظروف حياته وسجلهاليومي الذي كان يؤرخ الحقائق والوقائع رغم قسوة الظروف وممارسات الاحتلال البريطانيضد الشعب الفلسطيني، وهذا ما تظهره الإبداعات الشعبية الموثقة شعراً شعبياً وكذلك الأغانيالوطنية والحكايا الشعبية عن الأبطال الشعبيين في خضم الصراع والوعي الفطري الجماعيحيث أرخ الشعر الشعبي لتلك المرحلة ومدلولاتها وأبعادها الإنسانية أمثال إبراهيم نوحوالشاعر إبراهيم طوقان والشعراء الشعبيين الذين كانوا ينتقلون في القرى الفلسطينيةيتبارون بالشعر ويغمزون من قناة الاحتلال والنضال ضده كما حملوا السلاح وشاركوا فيثورة الستة وثلاثين واستشهد معظمهم أمثال نوح إبراهيم والشاعر عبد الرحيم الحاج محمد.

الثلاثاء الحمراء نموذج إنساني يؤرخ الحكاية الشعبية من واقعهاوأشخاصها الذين ضربوا مثلاً بالبطولة والفداء والتضحية ودليلاً حسياً لشعب موجود علىأرضه يكذب أساطير الوهم ومزاعم التضليل للحركة الصهيونية.

قيمة الثلاثاء الحمراء الخالدة في دروسها المستفادة ملحمةبطولية حقيقية ذات بعد سياسي إنساني. وصوت يصرخ عالياً للاستعداد واليقظة في كيفيةالمواجهة الشعبية لمؤامرة التهويد والاقتلاع وإنشاء الوطن القومي لليهود على أرض فلسطين.

ملحمة الشهداء الثلاثةكانت وستبقى درساً لكل المناضلين الذين حملوا شعلتها في الثبات والصمود بأيدي آلافالشباب الفلسطيني الذين تابعوا النضال في ميدان المواجهة يدفعهم حب الوطن والانتماءوالإيمان بعدالة قضيتهم وكما قال الشاعر محمود درويش إن على هذه الأرض ما يستحق الحياة