لم تترك دولة الاحتلال الاسرائيلي خياراً أمام الفلسطينيين غير المقاومة باللحم الحي والصدور العارية. صبَر الفلسطينيون كثيراً على نكبتهم، منحوا الاحتلال فرصاً لا يستحقها، تنازلوا عن كثير من حقوقهم المشروعة أملاً منهم بسلام مستحيل مع الكيان الغاصب، لكن اسرائيل ظلّت على الدوام تتمادى في غيّها وعدوانها، كلما سنحت لها فرصة لقضم مزيد من الأرض وبناء المستوطنات كانت تفعل، حتى بات واضحاً أنها تسعى الى منع قيام أي شكل من أشكال الدولة الفلسطينية مهما كان بسيطاً ومتواضعاً عبر جعلها – الدولة - مستحيلة على أرض الواقع. لم تكتف بذلك بل حوّلت حياة الفلسطينيين جحيماً لا يُطاق، في الضفة بواسطة الجدار والحواجز والمستوطنات والعزل والاعتقال والتضييق، وفي غزة بواسطة الحصار الظالم والعدوان الدائم، حارمةً اياهم من أبسط مستلزمات العيش ولو في حدوده الدنيا.

على رغم هذا الارهاب الاسرائيلي الفاقع، لا يزال ثمة مَن يلوم الفلسطينيين على ممارستهم أبسط أشكال مقاومة المحتل المتوحش باستخدامهم ما استطاعوا اليه سبيلاً من أدوات المواجهة، علماً أنهم لم يعودوا يطلبون شيئاً من أشقائهم سوى أن يكفّوا عنهم ألسنتهم وأقلامهم، وسنظل نعيد ونزيد أن أخطاء هذا الفصيل الفلسطيني أو ذاك، هنا أو هناك، لا تدين الشعب الفلسطيني برمته ولا تجرّم ثورته ولا تُسقط عن قضيته صفتها العادلة النبيلة. فقط لنتذكر ماذا فعل الاحتلال الاسرائيلي منذ قيام دولته الغاصبة، كم ارتكب من مذابح ومجازر، كم شرد وهجّر، كم نكّل وعذّب، كم قتل وجرح واعتقل، كم خرّب ودمر. ساعتها لن يجرؤ أحدٌ على لوم الضحية، وهي دائماً فلسطين وشعبها، لكن للأسف في واقعنا العربي المزري ثمة مَن يُبدّل الوقائع والحقائق منحازاً إلى القاتل على حساب المقتول، ولا يبررن أحد فظاعات اسرائيل بذريعة خطايا الأنظمة وأخطائها لأنها أصل الداء والبلاء.

آثمٌ مَن يظن أن اسرائيل زُرعت في بلادنا كي تعيش بسلام ووئام مع «جيرانها» (هذا لو جارينا المفترضين أن لها حق العيش على أرض فلسطينية التاريخية)، اذ لا يمكننا الفصل بتاتاً بين قيام دولة الاحتلال وجريمة تقسيم بلادنا إثر سقوط الدولة العثمانية، زَرْعُ اسرائيل في قلب الوطن العربي من جملة أهدافه (وهي كثيرة) فصل المشرق العربي عن مغربه وشمال افريقيا، والمشروع يتواصل اليوم عبر تدمير ما تبقى مشرقاً ومغرباً والإجهاز نهائياً على الدول التي قامت بفعل سايكس/ بيكو عبر إغراقها بالحروب الدامية وتدمير نسيجها الوطني والمجتمعي، فتغيير الخرائط الجاري بالدم والبارود ليس بالضرورة أن يحصل من خلال تغيير الحدود الجغرافية التي أرساها سايكس / بيكو وإنما من خلال ضرب الدولة المركزية داخل تلك الحدود نفسها وتفتيت وشائج اللحمة الوطنية الواهنة أصلاً بفعل عقود الاستبداد والفساد والتخلف، بحيث تبقى الدولة هيكلاً خارجياً بحدودها المعروفة جغرافياً فيما يكون المحتوى عبارة عن دول غير معلَنة تحت مسمى «المكونات»، أي المكونات الطائفية والمذهبية والعرقية والقبلية والمناطقية وفق طبيعة التركيبة الاجتماعية لكل بلد، وذلك كي لا تقوم للعرب قائمة في المدى المنظور.

لو كانت الدول الكبرى صادقة حقاً في حربها على الارهاب، لكانت حاربت اسرائيل أولاً بوصفها الدولة الداعشية الأولى في العالم، فما ارتكبه الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني على مدار عقود، وما يرتكبه يومياً من توحش وإرهاب لا يختلف كثيراً عن فظائع «داعش» وأخواتها، لعل الفارق الوحيد بين قادة الاحتلال و «الخليفة» المزعوم وأتباعه هو فقط في الزيّ. يمكننا القول إن نتانياهو ورهطه ونظراءه السابقين واللاحقين ليسوا سوى داعشيين ولكن بربطات عنق.