أريدُ أن أخرج من لغة البيانات والمقالات إلى خطاب أكثر ديناميكية وفعل، فأنا كرجل يكمل اليوم عامه الحادي والسبعين قضى منها 54 عامًا مُندمِجًا في الصراع مع عدونا الذي يرفض وجودنا ويحاول إنهاء كينونتنا أرى بأنَّ هذه المرحلة هي الأخطر على قضيتنا بفعل عوامل داخلية وخارجية لم تتوفّر إلّا لمامًا، وفي مراحل انشقاقات سابقة كان نهايتها الفشل.

أؤمن بالشباب الفلسطيني وأثق بأنَّ عليهم العبء الأكبر، وبأنَّنا شعب الجبّارين، نقلنا تجربتنا إليهم وسنستمر بتوريثها بإيمان مطلَق وحتمي بأنَّ حلم الشعب الفلسطيني سيتحقّق من خلال صموده في وجه التزييف والمؤامرات الداخلية والخارجية وبالوعي الذي يكتسبه أبناء هذه الأرض يومًا بعد يوم وتجربة بعد تجربة، ولأنَّ التاريخ لا يرحم الضعفاء والمدَّعين وأصحاب الأقنعة.

ومن منطلَق هذا الإيمان الحتمي، أُطالب "حماس" بالذهاب نحو الاعتراف بالحكومة الثامنة عشرة، وببرنامج المقاومة والتحدي والصمود بديلاً عن برنامج الجباية وتعزيز الانقسام، والاحتكام إلى صندوق الانتخابات.

ثورة الجوع ليست بحاجة إلى مَن يوجِّهها وقد حاول السيّد الرئيس على مدى سنوات أن يحافظ على حقوق أبناء شعبنا في رواتبه وحقّه في العلاج والتعليم والحياة من خلال دفع ما يزيد عن 57% من موازنة الحكومة الفلسطينية رغم استيلاء "حماس" على عائدات الجباية الطبيعية وعدم توريدها حتى إلى الحكومة التي وافقت عليها وشاركت بها تحت اسم الوفاق الوطني، والآن نقفُ جميعًا عاجزين: نحنُ عن كف يد "حماس" المدعومة بأيدٍ عربية وأجنبية تحاول رسم خارطة جديدة للشرق الأوسط من خلال مشاريع التصفية والإبدال، و"حماس" أيضًا أمام سوء الإدارة للقطاع ومقدراته وأهله وهي الثورة التي يقودها البسطاء في وجه الجشع والفقر.

ليس من سبيل لسيطرة قوى الانقلاب على غزة سوى بالدم والمزيد منه، هذه الخلاصة التي وصل إليها الشارع الغزي، كنا نراها ونحذّر منها، فلم يعد يمكن لإمارة غزة أن تُدير مليوني شخص يعيشون بفقر وحرمان وحصار وبدون أُفق سياسي أو معيشي إلّا بالضرائب، بعد أن حاولت ذلك بفرض الأمر الواقع وبخطاب سلطوي ديني وبأجهزة أمنية وبالسجن وبالإشاعات وبتوزيع الاتهامات على القيادة الفلسطينية، كل هذه الأساليب الديكتاتورية تسقط أمام التحدي الرئيس: المواطن.

"فتح" تُدير الأزمة الحالية بحكمة وتطرح حكومة المواطن، بل وتذهب باتجاه إنشاء برنامج مُعلَن يقوم على تطلُّعاته، وتُقدِّم رئيس وزراء يدير حكومة وطنية ببرنامج من القاعدة يعتمد على تنفيذ سياسة رسمتها القيادة باتجاه تأكيد أنَّ الحكومة في خدمة المواطن، وأنَّها حكومة إدارة تحت الاحتلال، وتسعى أن تكون مُعبّرة عن تطلُّعات الشعب وباتجاه المزيد من الجهد في الزراعة والتعليم والصحة ودعم القدس ومناطق (C) وتعزيز المنتوج الوطني وصمود المواطنين في أرضنا، والأهم أنَّها تخضع لمساءلة الحركة والقيادة. فأيُّ برنامج تطرحه "حماس" غير البرنامج الجبائي والسيطرة مع القمع وحشر المشروع الوطني في 27 كيلومترًا مربّعًا أو نحو ذلك؟!

الذي لا يمكن لـ"حماس" الاعتراف به هو التالي: أن مَن يتصدون للاحتلال في القدس هُم الفلسطينيون، وأنّ مَن ينزعون من خيامهم ومضاربهم في الأغوار هُم الفلسطينيون الذين رضعوا هذه الأرض قبل أن يوجد الاحتلال، وأنَّ الشهداء الأبطال للشعب المقاوم تقتسمهم أرض الأردن ولبنان والعراق واليمن وتونس وروما وباريس وألمانيا وكل بلاد الدنيا، وما زالوا وقبل وأثناء وبعد أن انطلق من داخلنا ومن عمقنا في غزّة مشروع الهزيمة ولغة المحتل الذي عمره الآن 12 عامًا تقريبًا.

لأسباب كثيرة نتمسَّك بمشروع فلسطين الدولة والمقاومة، ولأسباب لا يعرفها الخارجون نتمسّك بصمودنا على هذه الأرض ونقف أمام الجند وأعوانهم لنقول إنَّنا فلسطينيون وإنَّنا باقون على هذه الأرض ونؤكِّد بأنَّ كلَّ الانشقاقات التي مرَّت بها هذه الحركة درس في التاريخ لكلِّ مَن يحاول ويريد الخروج، وأن المواطن الفلسطيني سقفنا وبوصلتنا.

"احنا بنرسم بكرة"، هكذا يُلخِّص د.محمد اشتية إدارتنا للمرحلة القادمة، هذه ليست لغة فلسفية أو لغة للنخبة بل للجميع، تفهمها المزارعة الماجدة في أرضها والعامل في ورشة الحدادة وسائق الحافلة والطالب والأم والقائدة والقائد الذي سيحاسب. تبنينا منذ إطلاقتنا عدّة استراتيجيات منها الكفاح المسلَّح والمفاوضات وتدويل الصراع والآن نتمسَّك باستراتيجية دعم الصمود والمقاومة عنوانًا للمرحلة المقبلة، ولم يكن بين ظهراني "فتح" مُطلقًا أي مشروع تصفوي أو خياني، ولم تتآمر على شعبها ولم يكن لديها لغة غير فلسطين. احنا بنرسم بكرة، فماذا يفعل من يرددون لغة الاحتلال وأي "بكرة" مغموسًا بالدم وتكسير العظام سيقدمونه لنا ولفلسطيننا ولمشروعنا التحرُّري؟!

إحنا أم الولد، شعار "فتح" الذي يؤسِّس ويرسم وينطق لغة الحُرّيّة والكرامة في زمن أسود لن تطول حلكته الدامية.

عضو المجلس الثوري لحركة "فتح"

اللواء عبد الإله الأتيرة