دخلت فرنسا مرحلةً نوعيّةً جديدةً من التناقضات الداخلية التناحرية بين الطبقات الوسطى والعُمّال والفئات والشرائح الاجتماعية الفقيرة خصوصًا، والنظام السياسي منذ الـ17 من تشرين ثاني/ نوفمبر الماضي مع نزول أصحاب السترات الصفراء إلى الشوارع للمطالبة بإلغاء رفع أسعار الوقود، ثُمّ تدحرجت المطالب إلى رفع مستوى الدخل، ووصلت السبت الماضي (8-12-2018) الذروة بالمطالبة برحيل الرئيس ماكرون، والخروج من الاتحاد الأوروبي، وهناك مؤشرات تشي بأن الرئيس الفرنسي قد يُضحّي برئيس الوزراء إدوار فيليب.

ظاهرة السترات الصفراء حسب متابعات المختصين بدأت في مايو/ أيار الماضي حين قامت مجموعات فرنسية من تيّارات ومشارب مختلفة بتهيئة وإعداد وتسخين الشارع الفرنسي عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتتميّز هذه الظاهرة بافتقادها لرأس محرّك أساسي، ولا ترتبط بأي صلة مع الأحزاب التقليدية الكبيرة، وهي أقرب لحركة الخمس نجوم في إيطاليا، وبوديموس في إسبانيا، التي تمكّنت من استلام الحكومات في بلدانها، وهو ما يخيف الأحزاب الفرنسية. ويمكن تشبيهها بحركة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون "إلى الأمام" بالمعنى النسبي، التي شكّلها في نيسان/ إبريل 2016 عشية الانتخابات الفرنسية السابقة، التي جرت في مايو/ أيار 2017، لكنَّها أكثر تماثلاً مع الحركتين الإيطالية والإسبانية، مع أنَّ النواة الصّلبة (التي لم تكشف عن هُويّتها حتى الآن) من خلال توجهاتها شبه المعلنة والمعلنة، أكثر إدراكًا لمطالبها الاجتماعية والاقتصادية وبالتالي السياسية.

وتبدَّى ذلك في أحد الشعارات الرئيسة للاحتجاجات الفرنسية، التي دونت على ألوان العَلم الثلاثة تواريخ الثورات والاحتجاجات الرئيسة في بلاد الغال للربط بينها: 1789، و1968، و2018. إلّا أنَّها ظاهرة اجتماعية متميزة/ وبخصال وسمات خاصة لا تتشابه مع ما سبقها من أحداث، لأنّ لكل تاريخ ملامحه الخاصة، وتحديدا ما يجري الآن على الأرض لا يوجد وجه شبه مع ما سبقه من أحداث في فرنسا لجهة التالي:

أولاً- غياب الرأس القيادي، الذي يمكن أن تتفاوض معه الرئاسة والحكومة، وهو ما يزيد الأمور تعقيدًا. ثانيًا- عدم ربطها بفكر أو أيديولوجية محدّدة. كما حصل مثلاً في الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر، وهي لا تشبه بالضرورة احتجاجات الحركة الطلابية في 1968، التي تلازمت مع نضال السود في أميركا للمطالبة بالمساواة، وإلغاء العنصرية، وأيضًا مع الكفاح التحرّري للثورة الفيتنامية، وحركات التحرّر العالمية.

ثالثًا- لم تأخذ الطابع الطبقي في الصراع مع حكم ماكرون، وهي حركة منسابة وهلامية تحاول تحشيد كل الشارع الفرنسي بتلاوينه وشرائحه وطبقاته المختلفة.

رابعًا- لا تشبه تمامًا ما يُسمّى بـ"ثورات الربيع العربي" 2011 إلا من زاويتين: اعتماد مواقع التواصل الاجتماعي لاستقطاب الشارع الفرنسي، والدعوة لإسقاط النظام، لكنها تختلف من زاوية رفضها تدخل قوى أجنبية في مسار نضالاتها، أضف إلى أنّها تستهدف بشعاراتها العولمة وخاصة الأميركية، وينادي قطاع من أنصارها والمنخرطين فيها بتغيير قواعد العولمة، ووضع ضوابط لحركة رأس المال العالمي، وكبح جماح قوانين السوق والحد من انعكاساتها على مسار حياة المجتمع، وإعادة الاعتبار لدور الدولة في الرقابة على الاقتصاد والسوق، وكف يد عالم الخصخصة المنفلت من عقاله في استباحة مصير الشعوب والدول، وبموازاة ذلك عدم اقتصار رفع الحواجز أمام المال والسلع، بل يفترض أن تشمل أيضًا فتح أبواب الحرية أمام الناس جميعًا في التنقّل والسفر والعمل والهجرة، ودعم الشعوب والدول الفقيرة من خلال تعزيز فرص التنمية في بلدانها، والأخذ بيدها لبلوغ التحول الديمقراطي الحقيقي، وتعزيز التعاون بين الدول الكبيرة والصغيرة على أرضية التكامل.

ما يجري في فرنسا بالمعنى العلمي للكلمة ثورة اجتماعية، ولكن بملامح وشروط التطور، الذي تشهده البشرية في عصر ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات. غير أنّ هذه الثورة تحتاج إلى روافع لنضالها، وأبرز هذه الروافع يتمثّل بضرورة وجود قيادة للتعبير عن مصالح المحتجين، بالإضافة لبرنامج محدّد المعالم، رغم أهمية ما ورد أعلاه من نقاط برنامجية استراتيجية، لكنها لم تتبلور في برنامج كفاحي واحد وجامع، ومعلن رسميًّا، وأيضًا إمكانية تحشيد القوى الاجتماعية المحتجة عليه عبر التوافق فيما بينها.

ما تقدَّم لا يُشكّل سوى القراءة الأولى لحدث عظيم، قد تكون له تداعيات استراتيجية في كفاح الشعوب الأوروبية خصوصًا وشعوب العالم عمومًا ضد طغم رأس المال المالي، والعولمة الأميركية المتوحّشة، ويفتح الأفق نحو تحوّلات نوعية غير مسبوقة في مسار التاريخ العالمي، لا سيما أنَّ فرنسا بما لها من تجارب عظيمة في تاريخ الثورات الاجتماعية، يمكن أن تعود للإمساك بقرون التاريخ مجدّدًا من خلال النتائج المتوقعة لاحتجاجاتها المتعاظمة، والمستقبل المنظور يملك الجواب القاطع للفرنسيين والأوروبيين والعالم.