استوقفني لقاءٌ إذاعيٌّ مع أحد أعمدة الرأي في المشهد السياسي والإعلامي الفلسطيني يوم الأربعاء الماضي الموافق 28 تشرين ثاني/ نوفمبر 2018 عندما سأله المذيع عن هجوم التطبيع الرسمي العربي مع دولة الاستعمار الإسرائيلية، فجاءت الإجابة غريبةً وبعيدةً عن الدقة، حيث اعتبر صاحب الرأي، عدم وجود تطبيع بالمعنى الدقيق للكلمة، وأنَّ "كل ما هنالك لا يعدو محاولات اختراق مع النظام الرسمي، وهي قنوات ضيّقة ومحدودة". وأضاف، صاحب الرأي، أنَّ "الساحات العربية المرتبطة بـ(إسرائيل) في علاقات ديبلوماسية وعلنية لم ينجح فيها التطبيع. وما زال الرأي العام العربي لا يقبل التطبيع مع (إسرائيل)".

ما تقدَّم من جواب يتناقض مع الواقع في النظام الرسمي العربي، الذي يتسابق قادته ومؤسساته الحاكمة بشكل علني وسري على إقامة علاقات تطبيعية مع (إسرائيل) استجابةً لإملاءات إدارة ترامب المتصهينة، ونتيجة ضعف وتهالك النظام الرسمي العربي، وعدم تمكُّن أقطابه من الدفاع عن أنظمتهم بقواهم الذاتية، ممَّا دعا العديد منها إلى الركض في دوامة التطبيع مع دولة الاستعمار الإسرائيلية. والتطبيع هنا لا يعني مستوى وحجم النجاح بين هذا النظام أو ذاك في العلاقة مع (إسرائيل) المارقة، وانعكاس هذا النجاح في الأوساط الشعبية، لأنَّ التطبيع كأي علاقة تطبيع بين دولتين في حالة عداء، يبدأ أولاً بالعلاقات الرسمية، ثُمَّ يتحوَّل فيما بعد للإطار الأشمل. وبالتالي التطبيع مع العرب يبدأ في العلاقة الرسمية بين دولة العدو وبين الأنظمة العربية المتهافتة، كمقدمة لاختراق مزاج الجماهير الشعبية الرافض لمبدأ العلاقة مع دولة التطهير العرقي الإسرائيلية.

وهنا دلالة التطبيع تكمن وتتمثَّل في كسر "التابو" العربي السياسي والديبلوماسي والاقتصادي والتجاري والأمني والإعلامي والثقافي والرياضي، الذي تسعى من خلاله الأنظمة العربية المتورطة في عملية التطبيع المجانية إلى أيجاد ميكانيزمات ومناخ إيجابي يُهيِّئ لتوسيعه، ونقله من الحيّز الرسمي المحدود إلى الحيّز الشعبي العام، والتأصيل له. وبالتالي الحديث عن التطبيع، وبغض النظر عن حجمه، وطبيعته، والجهة المتورّطة به، لا يمكن اختزاله، أو التقليل من شأن ما يجري على الأرض، ولا يجوز ربطه بمدى انتشاره وتعميمه في أوساط الجماهير العربية. فما تريده دولة الاستعمار الإسرائيلية، هو العلاقات الديبلوماسية والسياسية والاقتصادية والأمنية بهدف ترسيخ القبول الرسمي بها كدولة "شرعية" في المنطقة العربية، واستثمار ذلك على أكثر من مستوى وصعيد في المشهد الداخلي، وفي العلاقة مع الشعب العربي الفلسطيني، ومع الشعوب العربية والإسلامية، ومن ثمَّ مع المجموعات القارية والأممية.

وما تقدَّم يحقِّق أكثر من هدف وغاية لدولة الاستعمار الإسرائيلية، منها: أولاً قلب معادلة الصراع رأسًا على عقب؛ ثانيًا شطب وتصفية عملية السلام، أو على أقل تقدير إحالتها لمسألة ثانوية غير ذات شأن؛ ثالثًا إحداث نقلة نوعية في طبيعة العلاقات مع الدول العربية، وتحويلها لعلاقات طبيعية، لا تحمل أية أبعاد عدائية؛ رابعًا إقامة تحالفات إسرائيلية عربية رسمية ضد قوى إقليمية؛ خامسًا تسيّد (إسرائيل) على رأس الإقليم الشرق أوسطي الكبير، وليس فقط على الوطن العربي، وهو ما يعني تغيير السيناريو، الذي طُبِّق سابقًا مع نهاية 2010بالاعتماد الأميركي الإسرائيلي على جماعة الإخوان المسلمين لإحداث التغيير المطلوب، إلى الاعتماد على الأنظمة العربية الرسمية المتهالكة والمهزومة والتابعة للغرب عمومًا والولايات المتحدة خصوصًا؛ سادسًا إجهاض أي عملية تحول ديمقراطي في الوطن العربي، وضرب المشروع القومي النهضوي في مقتل؛ سابعًا فتح المجال أمام (إسرائيل) لاختراق الدول الإسلامية والقارات الأفريقية والأسيوية واللاتينية الأميركية، ومن ثم المنظمات القارية والأممية؛ ثامنًا تغيير قواعد العمل السياسي والديبلوماسي في الإقليم لصالح (إسرائيل).

وعليه فإنَّ التقليل من عملية التطبيع، والخلط غير المتعمَّد بينه وبين مستوى اختراقه للجماهير الشعبية العربية فيه نكوص، وتسطيح وتبسيط لما يجري، وكأنه أمر ثانوي ليس ذا شأن هام وخطير. وهنا تكمن الثغرة العميقة في قراءة التطبيع وتداعياته وأبعاده. وهو ما يفرض على أصحاب وجهة النظر التبسيطية إعادة نظر فيما ذهبوا إليه، وقراءة اللوحة بالشاكلة الصحيحة والواجبة.