نحن نعيش اليوم في زمن تحوَّل فيه الإعلام إلى ماكينات متوحّشة، إعلام متوحّش بنشر الفوضى، ويمنع تشكُّل أي وعي حقيقي حول القضايا الجدية التي تهم الإنسانية. وهنا، وفي هذه الحالة ليس هناك فوارق تذكر بين دور وسائل الإعلام الجديدة، إعلام التواصل الاجتماعي، إعلام الانترنت، ودور وسائل الإعلام التقليدية.

علينا أن ندرك، أنَّ هذه الإعلام الوحشي، هو الابن الشرعي لليبرالية المتوحشة، المعولمة، المسيطرة على الأسواق الاقتصادية. هذه الليبرالية، التي تمثّل أقصى اليمين للرأسمالية، والشكل المستحدَث لها، استفادت إلى حد بعيد من التطور المذهل والمتسارع في تكنولوجيا المعلومات والاتصال، وربما هي من سعى إلى هذا التطور بهدف نشر الفوضى التي تسمح بسيطرتها على الأسواق بيسر وسهولة، ومن دون أي معارضة حقيقية، وهي أي الليبرالية المتوحّشة، تعمل على منع تكون أي حالة تضامنية داخل المجتمع الواحد أو بين المجتمعات حول أي قضايا جدية.

ما يهمنا هنا، هو انعكاس ظاهرة الإعلام المتوحّش على منطقتنا العربية، فهذه الظاهرة ساهمت دون شك في العقدين الأخيرين في تصفية وإنهاء مفهوم الأمة العربية، والهُوية العربية الجامعة. ساهمت في إسقاط وتدمير الدولة الوطنية، ومنعت نضوج أي شكل من أشكال التضامن العربي. وما زاد من فداحة الأوضاع، هذا الانقسام بين ما تبقى من دول عربية إلى تيارات متصارعة، باتت تُنفِق على هذه الماكينات الإعلامية المتوحّشة أكثر ممَّا تنفقه على تنمية شعوبها ودولها. هذه الماكينات لم تشوّه الوعي وحسب إنَّما تمنع تشكُّله حول قضايا أساسية مثل التحرُّر، والحقوق العامة، والتنمية، ومحاربة الفقر والجهل وتحقيق أكبر قدر من العدالة الاجتماعية.

أنا شخصيًّا، لم أصدق يومًا أنَّ هناك إعلامًا موضوعيًّا ومُحايدًا قبل هذه الظاهرة المتوحّشة، لكن كان هناك إعلام أكثر مهنية يراعي المعايير المهنية، ويتمتّع بقدر من المصداقية، هذه المعايير المهنية تتهاوى اليوم في عالم تكسّرت فيه كل القيم وتكسر فيه منطق القانون الدولي الإنساني، نحن في عالم تسوده الفوضى الخلّاقة التي سعت الليبرالية المتوحشة إليها.

أمَّا بما يتعلَّق بنا نحن الشعب الفلسطيني، فانعكاس هذه الظاهرة المتوحشة كان علينا كبير ونتائجه فادحة، فهذه النتائج في السياسة بوجود الظاهرة الترامبية، والتي هي عنوان لهذه الظاهرة كما هي في الإعلام، أدَّت إلى أنَّ تنهش هذه الماكينات الإعلامية المتوحشة وعينا الوطني وهويتنا الوطنية الجامعة وذاكرتنا الوطنية الجمعية، فنحن اليوم لسنا أمام تحدي الانقسام السياسي الظاهري والعلني، وإنَّما نحن أمام ظاهرة تشرذم الوعي في ظل غياب هدف وطني جامع.

ولكن، ومع ذلك، وبالرغم من صعوبة الوضع، فإنَّ طابع المواجهة مع المشروع الصهيوني الإحلالي، الذي ينفي وجودنا كشعب له تاريخ وحقوق، هذه المواجهة لا شك أنَّها تفرض علينا نوعًا من التماسك، لكنه سيبقى هشًّا إذا لم نسارع التأكيد على هُويتنا الوطنية وتعزيزها، وتأصيل الوعي الوطني ودفعه نحو العدو الرئيس وهو الاحتلال الإسرائيلي، بعيدًا عن أي معارك جانبية تحاول الماكينات الإعلامية المتوحشة إلهاءنا بها. إنَّ المهمة صعبة لكنَّها ممكنة.