لا يمرُّ يوم إلّا ونصطدم بخبر حادث مروع على طرقاتنا، وتعجز أعيننا عن النظر للأجساد التي تمزَّقت بين حديد المركبات وصخور الطرقات، فما نخسره على الشوارع يوميًّا يفوق ما فقدناه في خنادق المواجهات، بهذه الكلمات يعلِّق الكثير من المراقبين على الخسائر التي نتكبّدها والأرواح التي تحصدها حوادث الطرق صباحًا ومساءً داخل وعلى الطرقات بين التجمعات الفلسطينية، فلا يمضي صباح إلّا وتهتز هذه الأسرة أو تلك لحادث مروع يخطف من بين يديها ابنًا عزيزًا كان في طريقه للجامعة، أو والدًا كان ذاهبًا أو قادمًا من مكان عمل بعد يوم طويل!
إنَّها معركة البقاء على شوارع أشبه ما تكون بساحة سباق منفلت من كلّ القوانين، حرب على شوارع بالكاد تستوعب مرور المستخدمين، فوفق تقرير الشرطة الفلسطينية فقد بلغ عدد حوادث السير المسجلة في عام 2018 نحو 12829 حادثًا بنسبة ارتفاع وصلت إلى 11% مقارنة مع عام 2017 في حين أنّ نسبة الوفيات الناتجة عن هذه الحوادث ارتفعت بنسبة 15% للفترة نفسها في مختلف المحافظات الفلسطينية علما أن عدد وفيات حوادث الطرق لعام 2018 بلغت 125 حالة وفاة، ولعلّ الملاحظة المهمة أيضًا في هذا السياق تتمثّل في أنَّ نحو 59% من هذه الوفيات وقعت في الحوادث المسجّلة خارج مناطق سيطرة السلطة الوطنية الفلسطينية وفق المعلومات الموثقة لدى الشرطة الفلسطينية، ووفق التقرير، فإن الاتجاه العام ينذر بمزيد من المخاطر لعام 2019 حيث سجلت شرطة المرور وقوع 8253 حادث سير منذ بداية العام الحالي نتج عنها 81 حالة وفاة و6645 إصابة من بينها 95 حالة وصفت بالخطيرة، أنّها أرقام صادمة بكل ما في الكلمة من معنى، وتتطلب حملة وطنية شاملة للتصدي لأسبابها ومسببيها.
لحظة وقوع الحادث تقرأ على وجوه الجميع الصمت والحزن وتقريع جميع الأطراف، ويتولّد لديك شعور بأنه سيكون هذا آخر الحوادث لما أصاب الحاضرين والمشاهدين من ندم وخوف وسخط على الأسباب مهما كانت، ومع ذلك تتكرر الحوادث وقد يتبع الحادث نفسه حوادث إضافيّةً، انه مسلسل من الرعب قبل وأثناء وبعد الحدوث.
ومع تكرار تلك الحوادث وازدياد حجم الخسائر البشرية من أرواح تزهق وخسائر مادية واقتصادية تزيد من أثر الحوادث على الأسر والأفراد والمؤسسات، نتساءل عن لأسباب، فلا شك أنّ السرعة والإهمال يعتبران من مسببات وقوع حوادث الطرق بهذه القسوة وهذه الأعداد المتزايدة، فمن يراقب حركة السائقين على الطرقات يكتشف السباق اليومي ذهاباً وإيابًا ويرى التجاوزات الخطيرة بشكل يخالف كل التعليمات، سرعة مجنونة يتناسى منفذوها انهم مؤتمنون ومسؤولون عن أرواح الركاب والمارة، ويغيب عن بال المسرعين ضعفهم الشديد أمام عوامل المفاجأة التي تكون ذات تأثير قوي على قدرة السائق على تجنب كارثة الاصطدام بغيره أو الانحراف عن الطريق نحو هاوية الموت، وما يزيد من خطورة الحوادث ارتباط السرعة بالإهمال، إهمال السائق وانشغاله بالأجهزة والاتصالات أو الاحاديث مع الركاب بافتراض انه ملك الطريق والسائق الذي لا يشق له غبار والعارف بالطرقات حتى لو كان مغمض العينين، متناسيًا أنّ الحادث لا يحتاج سوى ثانية وتنقلب كل الأمور رأسًا على عقب!
من الجوانب الأخرى التي تسترعي النظر وإعادة التفكير، غياب الوعي المروري وحقوق وقوانين استخدام الطرقات، فالبعض ينظر لذلك وكأنه شرط للحصول على رخصة السياقة فقط وليس لاستخدامها، فما أن يمتلك المركبة أو أن يجلس على كرسي قيادة المركبة حتى ينسى كل شيء، متناسيًا أنه مُنح الرخصة والتعليمات والقوانين للعمل على أساسها ولم يمنح الرخصة لقتل الناس تحت عنوان النسيان أو التحاذق على القوانين أو استغفال الركاب أو الاستهتار بالتعليمات، فالإهمال كلٌ متكامل، من يهمل القوانين، يهمل التعليمات، ويهمل حقوق الآخرين، ويهمل شروط السلامة التي ينبغي أن يتقيد بها قبل وأثناء القيادة، على الطرق السريعة وفي الطرق الوعرة.
الأمر الآخر الذي يجب التوقف عنده من بين الأسباب يتمثل بضعف وغياب الأمان والمتانة في المركبات المستخدمة على الطرقات، وهذا يفتح ملف مدى أهلية المركبات للتنقل والحركة صيفاً وشتاءً وخاصة العمومية منها، ومدى جاهزيتها لخصوصية كل فصل، ومدى ملاءمتها وعدم تعرضها لمشاكل ميكانيكية مزمنة أو في الهيكل الداخلي والخارجي للمركبات، خاصة تلك المرتبطة بالتغييرات على المقاعد وغيرها من الأجزاء التي تتم بعيدًا عن التصميم الأصلي للمركبة، تحت شعارات التجميل ما يزيد من مخاطر الانزلاق في ابسط الحوادث.
قد يكون للواقع الفلسطيني بعض الخصوصية بسبب الاحتلال وعدم سيطرة الأجهزة الفلسطينية المختصة على كافة المناطق والطرقات، الأمر الذي يترك مساحة واسعة لبعض السائقين للانفلات من القوانين باعتبارهم خارج المراقبة، ما يساعد على ارتفاع معدلات الحوادث من فترة لأخرى، خاصة مع وجود ظاهرة المركبات غير القانونية، حيث تشير معلومات الشرطة الفلسطينية إلى أن الجهات المعنية تمكنت من إتلاف نحو 3395 مركبة منها منذ بداية عام 2018، لا سيما أن  17 حالة وفاة من بين 81 حالة وفاة المسجلة خلال عام 2018 كانت بمركبات غير قانونية وهذا رقم يحتاج لوقفة من الآباء والأمهات والجهات المسؤولة في كافة التجمعات الفلسطينية لمحاربة هذه الظاهرة لمخاطرها على حياة الركاب والمواطنين بشكل عام.
كما تضمنت أهداف التنمية المستدامة والصادرة عن الأمم المتحدة ضمن أجندة التنمية 2030 هدفاً دولياً لخفض عدد وفيات الطرق بنحو النصف مع حلول عام 2020، وهذا يفرض علينا كمواطنين، ومؤسسات، وسائقين وركاب تحدياً كبيراً، لتحقيق الغاية المنشودة في ظل أن البيانات الحالية تشير إلى ارتفاع في عدد الحوادث وعدد الضحايا وعدد المصابين وارتفاع التكلفة الاقتصادية والاجتماعية لهذه الحوادث في الأراضي الفلسطينية من عام إلى عام آخر.
ولا بد من الإشارة إلى أن مواجهة مخاطر حوادث الطرق والحد منها، مسؤولية مجتمعية تتشارك فيها الحكومة ومؤسسات القطاع الخاص ممثلة بشركات التأمين والمؤسسات المعنية بالسائقين ومؤسسات المجتمع المدني والمواطنين، وفق رؤية وطنية ومن خلال منظومة من المبادرات والحملات الشاملة لمحاربة أسباب حوادث الطرق على مختلف المستويات، لأن استمرار هذه الظاهرة يكلف المجتمع والأسر والاقتصاد خسائر بشرية فادحة، ليس فقط بسبب زيادة عدد الوفيات، لكن أيضًا بما تتركه تلك الحوادث من آثار على المصابين والناجين والأسر التي فقدت معيلها، والأسر التي فقدت أبناءها الذين كانت تنتظر مستقبلهم في قادم الأيام، وهي خسائر مباشرة على الاقتصاد الوطني الذي هو بأمس الحاجة لكل الموارد في ظل التحديات الراهنة.
وهنا نذكر أيضا المعلومات التي أوردها التقرير الذي أعدته كل من مجموعة «أكسا للتأمين»، والشراكة العالمية من أجل السلامة على الطرقات، والمبادرة المالية لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة 2017 حول دور شركات التأمين في تعزيز السلامة على الطرق، حيث أوضح التقرير أن 91% من الحوادث المرورية على الطرق في العالم تحدث في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، وأن إجمالي تكاليف الحوادث المرورية يبلغ 518 مليار دولار، أي ما يعادل 1 إلى 3% من إجمالي الناتج المحلي العالمي، ومن الممكن أن ترتفع إلى 5% في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل.
إنّها معركة التزام ومسؤولية مستمرة لحماية الإنسان وتعزيز الإجراءات لتحسين الأمن والسلامة المرورية، وحماية الأرواح ودرء المخاطر عن الطرقات، إنّها دعوة لنا جميعًا للتعاون مع الجهات المعنية لتكون شوارعنا وطرقاتنا أكثر أمناً لكافة المستخدمين، نحن بحاجة لثقافة ملتزمة بآداب السياقة على الطرقات، تعطي الحقوق بكل احترام، وتدافع عن سيادة القانون الناظم لاستخدام الطرق والمواصلات، فقيادة المركبة مسؤولية قبل أن تكون فنًّا لاختبار القدرات، فالسرعة  والسباقات لها مضاميرها الخاصة بعيداً عن تهديد وترويع حياة الركاب، فسائق المركبة مؤتمن على نقل ركاب مركبته إلى مقاصدهم بسلام ولم يأخذ تصريحًا أو رخصة للمخاطرة بأرواحهم على الطرقات، ودون هذا التكاتف لمواجهة ظاهرة الاستخفاف بقواعد وضوابط استخدام المركبات والطرقات سنكون جميعاً أمام مخاطر كبيرة لاستنزاف المزيد من أرواح شبابنا وفقدان أعزائنا وحرمان أسرهم من مقومات الصمود وتكبيد مجتمعنا المزيد من الخسائر التي يمكن تفاديها بالوعي والإحساس بالمسؤولية والانضباط لتعليمات وقوانين استخدام الطريق، وعلى سائقينا معرفة أن السرعة لن تخلق الفرق الكبير ولن يكون هناك جوائز للمخاطرين بأرواح ركابهم، فقد توفر السرعة بعض الثواني عند الوصول، لكن عليه أن يتذكر أن المخاطرة قد تفقده كامل حياته وحياة غيره في لحظات!