تضمن خطاب الرئيس محمود عبَّاس أمام مجلس الأمن أول أمس مبادرة سياسية لتجاوز الإستعصاء الإسرائيلي الإستعماري، وردًا على إعتراف إدارة ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل. إذا ما تم التدقيق في جوهرها، نلاحظ أنَّها لم تخرج عن ما حملته قرارات المجلس المركزي في دورته الأخيرة الشهر الماضي، حيث أكَّد فيها الرئيس ابو مازن على الآتي: إنشاء آلية أممية (متعددة الأطراف)، تتجاوز التفرد الأميركي في رعاية عملية التسوية السياسية، والعمل على عقد مؤتمر دولي منتصف العام الحالي (2018)، تبادل الإعتراف بين الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية على أساس حدود الرابع من حزيران عام 1967، وقف الإستيطان الإستعماري الإسرائيلي، ووقف كلَّ الأعمال أحادية الجانب خلال فترة المفاوضات، ووضع سقف زمني لإنهاء المفاوضات، لا سيما وأنَّ الملفات الأساسية تم بحثها بشكل مفصل أكثر من مرة، وباتت لا تحتاج لمزيد من البحث والنقاش، إلّا إذا قادة إسرائيل الإستعمارية سيواصلوا خيارهم المعادي للسلام .
هذا وأبدت وزارة الخارجية الأميركية الإستجابة للرعاية الدولية متعددة الأطراف، عندما أعلنت المتحدثة بإسمها، هيذر ناوورت، أنَّ الولايات المتحدة تفكر بإضافة أطراف دولية أخرى لرعاية عملية السلام. لكن القيادة الإسرائيلية ممثلة برئيس الوزراء وباقي أركان إئتلافه نضحوا من وعائهم المعادي للسلام، عندما إعتبروا الرئيس عباس "غير معني بالسلام."، وأنَه "يستحضر الخطاب القديم." ولو سأل المرء أولئك الإسرائيليين، ما هو الخطاب الذي يناسبهم؟ وما هو الخطاب القديم؟ وماذا يعني الخطاب الجديد؟ وهل غيَّرت القيادة الفلسطينية يوما منذ الإنخراط في عملية السلام قبل 25 عاما خطابها؟ وما هو المطلوب من القيادة الفلسطينية والرئيس ابو مازن ؟ وهل عليه أن يتساوق مع مشروع نتنياهو وبينت وليبرمان الإستعماري لترضى إسرائيل؟ وماذا عن شعبه ودوره ومكانته كقائد للنضال التحرري الوطني؟ هل مطلوب منه التخلي عن مصالح شعبه لترضى إسرائيل الإستعمارية؟
من الواضح أنَّ نتنياهو وفريقه الحاكم يلوكون ويجترون مواقفهم المعادية والمتناقضة مع ركائز عملية السلام، لإنَّهم ضد أي مبادرة لبناء صرح التسوية السياسية. ولهذا عملوا مع الإدارة الأميركية لوضع العراقيل والعقبات في طريق وصول الرئيس أبو مازن لمنبر مجلس الأمن، لأنَّه يعريهم أكثر فأكثر من خلال إعلانه وتمسكه بخيار السلام، ومن خلال إستعداده للذهاب للمفاوضات وفق الأسس المعروفة والمحددة لإشادة صرح السلام. وبعدما وصل وألقى خطابة الهام، وما تضمنه من رؤية شجاعة لبلوغ تسوية سياسية تستجيب لمصالح كلَّ الأطراف، وتنقذ شعوب المنطقة من براثن الحرب والعنف والفوضى والإستعمار، جن جنون القيادة الإسرائيلية، فهاجمته بخطاب ديماغوجي لا يستند لفكرة منطقية واحدة، وكل تصريحاتهم عكست عجز فاضح لديهم سوى ترديد كلمات ممجوجة.
وللإسف فإنَّ عددا من ممثلي الفصائل الفلسطينية وقع من حيث لا يدري ولا يريد فيما أرادته دولة الإستعمار الإسرائيلية، التي ترفض مبدأ السلام. ووقعت (الفصائل) في محاكمة خاطئة لمبادرة رئيس منظمة التحرير. فالمبادرة لا تستحضر أوسلو، خاصة وأنَّ أوسلو قد دفنتها القيادة الإسرائيلية، وتستجيب بالجوهر لقرارات المجلس المركزي في دورته ال28. واهمية المبادرة أنَّها جاءت بعد جولات قام بها الرئيس عبَّاس لعدد من الدول والأقطاب لإستشراف مواقفها من التطور اللاحق لإعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل في 6 ديسمبر 2017، وقام مع مطبخه السياسي بإستخلاص حصيلة تلك الجولات، وخلص للنتيجة الشجاعة، التي تقدم بها، بهدف حماية الحقوق والمصالح الوطنية العليا. ولم ينشد الرئيس أبو مازن للخطاب الشعاراتي، وحرص إنسجامًا مع رؤيته الإستراتيجية لعملية السلام على محاكاة الواقع بشكل مسؤول.
لذا على الكل الفلسطيني أن يتريث قليلاً قبل إصدار الأحكام، ويدقق في الواقع وتشاباكاته العربية والإقليمية والدولية، وما يرمي إليه الأطراف الأخرى في المنطقة والعالم، ليكون موقفها موضوعيًا ومنسجمًا مع الأهداف الوطنية.