أمام عظمة الولايات المتحدة وسطوةِ حضورها في العالم، انتهى زمن الحديث عما جرى للهنود الحمر على أيدي العنصريين الانغلوساكسون الذين غزوا أرض القارة العذراء. وبدل أن يتنافس المؤرخون والجمعيات التي تخصصت بالحديث عن حقوق الانسان واحترام حياته ومصيره، أصبحت هذه الامبراطورية وبمستوى عال من التشبيح والبلطجة السياسية هي المحدّد لكيفيات هذه الحقوق والآمر بمن يستحقها ومن لا يستحقها... وللعالم معها الكثير من التجارب التي لا يمرُّ الزمن على ما أنتجته من مآسٍ وويلات.
انتهى زمن الحديث عن الأفارقة الذين سيقوا عبيدا فبنوا الحياة لقومٍ آخرين، منحوا الحق لأنفسهم باستعمار الأرض واسترقاق البشر، بحجة أنهم العنصر المتفوّق والأذكى والأحق بحياة الترف والسعة، فيما أعراق العالم الأخرى مهمتهم خدمة العنصر المتفوّق وتأمين ما يلزمه من وسائل الراحة والرفاهية. مقابل نظريّة التفوّق العنصري التي ينتمي إليها دونالد ترامب- الرئيس الحالي للولايات المتحدة الأميركية، يتحدّث غلاة العنصريّة الصهاينة عن كونهم صفوة البشر، الذين أجاز لهم الله تسخير الشعوب لخدمتهم. وأن الله خلق الآخرين على شاكلتهم حتى لا يزعج أبصارهم ويخيف صغارهم. واجبنا جميعا الاصغاء والفهم الحرفي للنشيد الوطني للكيان الصهيوني، الذي يضع في وجدان الصهاينة جميعا الاطار الجغرافي لأمبراطورية بني صهيون المستقبلية.
الرئيس الأميركي الحالي، الذي استفاض كل ذي باع بمنحه الوصف الذي يرتأيه ويناسب فكره، هو الابن الأصيل لتلك العصابة الاجرامية التي استباحت أرض الهنود الحمر ولحوم أبناء القارة السمراء.
لونه وحركاته ونبرته الاستعلائية هي نفسها التي كان يخاطب بها الهندي والافريقي لقرون عديدة خلت.
مَن من الاميركيين الأقحاح باستطاعته مصارحة العالم من خلال فضح الخطايا التي ارتكبت أثناء بناء ما يسمى الولايات المتحدة الأميركية؟.
قلنا ونعيد ما قلناه منذ سنين: لا تملك الولايات المتحدة الأميركية القيم الأخلاقية والانسانية التي تستطيع من خلالها التعبير عن الأخلاق والأنسنة. فهي النموذج الأصيل لكل نماذج الابادة الاستعمارية، بل هي زبدة وخلاصة النماذج التي سبقتها.
عندما نبدأ مما تقدّم، لا نفاجأ بما تقدّمه الولايات المتحدة من عنجهية فوقية واستباحة وحشيّة لكل شأن من شؤون عالمنا، بالطبع: باستثناء وليدها اللقيط الذي حط رحاله فوق أرضنا الفلسطينية والعربية- إسرائيل.
رئيسة وزراء بريطانيا العظمى احتفلت بمئوية وعد بلفور، بكل صلف وعجرفة ودناءة. ومقارنة بين سياسة الولايات المتحدة حيال القضية الفلسطينية والقضايا العربية عامة، وبين حاملة المشروع الأصلي لاستعمار المنطقة- بريطانيا، نجد أن لا شيء تغيّر أبدا ما قبل هزيمة المستعمر العثماني وحتى الآن.
الغريب أن المشروع الأورو- أميركي لا يقتصر فقط على استعمار فلسطين وتقطيع أوصال الديموغرافيا العربية، بل يتعداه إلى الجهوزية الدائمة لتعديل خارطة كيانات المنطقة تبعا لحاجات المصالح الحيوية لتلك الدول.
يجب أن نقرأ التاريخ جيدا، نتمعن بكلّ حدث ونحفظ كل كلمة في كل وثيقة تم الافراج عنها من قبل الرقابة الأورو- أميركية. فبلادنا تخضع على مدار الوقت للرقابة والقراءة التوبوغرافية لتضاريس السياسة والعلاقات الداخلية والاقليمية... دون هوادة.
تحليل الحدث يجب أن ينطلق دائما من مضامين تاريخية ثابتة حول حقيقة ثبات المشروع تجاه منطقتنا، وتجاه الرعاية العميقة للكيان الصهيوني ومساعدته في أداء دوره الاستعماري والعدواني تجاه كل من لا ينتسب إلى جوهر المشروع.
طبعا يوجد في الولايات المتحدة الاميركية لوبي صهيوني وجمعيات أرثوذوكسية متطرفة وقوى متصهينة وداعمة بشدة للمشروع الاستعماري الصهيوني في منطقتنا، لكن تلك المنظمات والجمعيات لا تتعدّى كونها مساعدة في الدعم ولا تهتم لأدبيات السياسة الكاذبة والمضللة التي غالبا ما نقع في حبائلها. أي أنها أصدق من الادارة السياسية للبيت الأبيض بكثير، كونها لا توارب ولا تمالىء.... تعلن عداءها لنا بكل وضوح وأريحية.
أنجرؤ على طرح السؤال عمَّن نكون في نظرهم؟ ما هو مستوى آدميتنا وهل يمكن أن نتكافأ معهم إنسانيًا؟ على المستوى الحضاري ونوعيّة الدم الذي يجري في عروقنا مقارنة بدمائهم، هل نتساوى معهم في ذلك من وجهةِ نظرهم؟
هل نتعدى مجرد كوننا الأسواق ومرتع سياساتهم؟ إلى أي حد يجيدون تأليبنا على بعضنا البعض، نتواجه ونتقاتل، هم يدعمون صراعاتنا الداخلية من خلال مدّها بأسباب استمرارها وجعلها أولويتنا مقارنة بما يمثله خطرهم على وجودنا؟
ما هي الفوصى الخلاقة، وهل اكتشفنا إلى الآن ماذا كانت تعني؟ ما هو المشروع البديل الذي طرحوه علينا كبديل عن النظام الذي كان سائدا؟ ألسنا حقل تجارب مثالياً لألاعيبهم؟
لا يوجد في العالم عدالة، فالحق هو القوّة فقط، ومن يدّعي غير ذلك فليراجع تاريخ علاقتنا بالولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل. لماذا فوق رأس الحكومات الصهيونية مظلة لا تتردد عن حمايتها، فيما مجرد الظن بدولةٍ عربية بامتلاكها مادة محرّمة دوليا أو مجرّد دس تقرير حول دولة ما عربية تشن الحرب عليها وتتمادى حتى نهاياتها، فيما كل قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة بالقضية الفلسطينية لم ينفذ منها شيء حتى الآن؟
سؤال نطرحه بوضوح تام: بماذا نختلف عن الهنود الحمر والأفارقة الذين استرِقّوا قرونا عديدة لخدمة ورفاهية العنصر الأبيض في أميركا وأوستراليا.
للأسف الشديد لديهم دول عميقة، تخطط وتصنع استراتيجيات داخلية وخارجية، خطط تعنى بالمصالح الحيوية- ذلك المصطلح العجيب- الغريب، الذي يحددنا ضمن الدائرة التي تحدد تلك المصالح وماهيتها.
الدولة العميقة هي القوة المخولة حفظ المصالح التي تقوم عليها قوة الدولة بتعريفها المسطح. هي الممسكة ناصية القرارات الاستراتيجية والواضعة لمخطط الدوائر حول نقطة استقطاب شاملة وثابتة تخضع كافة التفاصيل المكوّنة لمفهوم المصالح لميكروسكوب المسافة التي تبعدها عنها أو تقرّبها منها... أين نحن من المصطلح، وهل يوجد لدينا دول عميقة حارسة وحامية لمنظومة مصالحنا؟ للأسف ما لدينا هو عكس ذلك، أي أن في المنطقة محميّات تسمّى دولا، خاضعة بشكل مطلق للدولة العميقة مقابل حفاظها على كراسي وعروش... لا أكثر... والمقابل هو دعم سياساتها دون اعتراض، وتسهيل تدخلها حيثما ترتأي، وتمثيل دورها حينما يطلب منها التدخل...
يجب أن نعي حقيقة المشروع العامل في المنطقة وعليها لكي ندرك موقع فلسطين فيه، ودور الكيان الصهيوني في حلقته المقفلة. وجوابا على ذلك يجب أن ندرك أن لا فلسطين في أجندة المشرع العابر للقارات، والذي تؤدي فية إسرائيل دور كرة الثلج المستقطبة لحالة استعمارية قلّ مثيلها في التاريخ. لأن الكيان الصهيوني يشكل مركز الاستثمار لأمراطورية طور التكوين، يعمل أباطرتها وفق خطة مرحلية طويلة الأمد تتعدى القرن من الزمن لتصبح الولايات المتحدة الثانية- بصفتها النسخة النموذجية في أوليات نشأتها عن الولايات المتحدة الأميركية.
كفى جلدا للذات، وتعالوا نسأل أنفسنا عن: نحن وهم، ماذا نريد وماذا يريدون؟
عنصريّتهُم ترفض مقاسمتهم شعب آخر لجغرافيا فلسطين على امتداد مساحتها. وعنصريتهم تقضي بكيِّ الوعي الوطني والانساني للشعب الفلسطيني وصولا لقبولهم العيش في المعازل "الغيتوات"، والاعتياش من خدمة الصهاينة حيث هم. أي أنه لا مكان للفلسطيني المتساوي معهم في الحقوق والمقام الانساني، ولا يوجد في أجندتهم فلسطيني جيد وآخر سيّىء... كلهم في نظر غلاة الصهيونية سواء.
في المرحلة التالية على أعاربنا أن يتأقلموا مع فكرة المركز والأطراف: المركز الاقليمي هو الكيان الصهيوني وعالمنا العربي هو السوق والمدى الحيوي الذي يدير شؤونه. للأسف بدأنا نشهد إرهاصات المشروع من خلال تطبيع واضح بين بعض الأقطار العربية والكيان الصهيوني. الذريعة المائعة والممجوجة تتلخص بالخطر الاقليمي الذي تمثله ايران، فيما إسرائيل الكيان الوحيد الذي لم يعرّف بعد: على صعيد الحدود. والذي يمتلك ترسانة نووية يمنع فتح ملفها والحديث عنها. والذي يملك أعتى طرازات الأسلحة الحديثة في العالم قاطبة. الكيان الوحيد الذي يعتدي ويهدد ويفرض الوقائع دون أية أسئلة وأية اعتراضات من المراجع الدولية.
كما أنه وللأسف، تراجع اهتمام العديد من الاقطار العربية بالهمّ الفلسطيني. بل وأكثر من ذلك: جرى التمهيد لقرار الرئيس الاميركي بنقل سفارة بلاده إلى القدس المحتلة بالحديث عن صفقة زائفة ووعود فارغة روّج لها بعض لاعقي عار الخيانة من العرب، وروّج لها المهدّدون للرئيس الفلسطيني ب: إما يقبل بصفقة نقل العاصمة الفلسطينية إلى أبوديس أو إجباره على الاستقالة. وروّج لها المتحدّثون عن بدائل للسلطة الوطنية الفلسطينية مهمتها تذليل العقبات أمام مشروع تفكيك القضية الفلسطينية بالطريقة التي يرتئسها قادة الكيان الصهيوني وبمشاركة بعض الدول العربية المنخرطة في هذا المشروع. غياب بعض العرب عن المؤتمر الاسلامي حول القدس واقتصار الاجتماع على وزراء الخارجية- فيما إحدى الدول العربية الهامة أوفدت إلى المؤتمر وزيرا بلا حقيبة... ووزير خارجية دولة عربية أعرب عن ضرورة عدم إزعاج الادارة الاميركية بموضوع ثانوي- القدس موضوع ثانوي- للإبقاء على حرارة الحملة ضد إيران.
علينا الكفّ عن ممارسة هواية الاستخفاف واستسهال المخاطر التي تحيق بالمنطقة وخاصة ما يتعلق بالقضية الفلسطينية منها. لسنا أمام مشروع هامشي أو شكلي، بل نحن أمام عصابة عالمية تدير مشروعا منهجيا شاملا يطيح بأسس الدول المنتشرة على امتداد منطقتنا.
لسنا نقول ذلك للتهويل، ولن ننتقص المقاومين لهذا المشروع من قدراتهم وإمكاناتهم في التصدي وفرض حالة بديلة لما يرسم ويُخطط. لكن ما نريد قوله هو التالي: كفى تراشقا وكيلا للاتهامات من هنا وهناك، وكفى تجييشا وتأطيرا وحديثا عن أسباب لا قيمة لها لانجاز الوحدة الوطنية الفلسطينية. المسألة بالمختصر: نحن وهم... ولا شيء آخر.
المرحلة القادمة صعبة وخطيرة، لا تحتاج فذلكة ومنح صك براءة ذاتي من قبل اصحاب التصريحات النارية ودعاة التحرير المؤجل. جل ما نحتاجه جميعا رص الصفوف والتخلي عن الانا المتضخمة لدى البعض... فلسطين هي الهمُّ الأكبر.
أرجو قراءة كتاب: الابادة العرقية لإيلان بابيه- أحد المؤرخين الجدد في الكيان الصهيوني، وهو بالطبع من المؤيدين للتسوية على أساس حل الدولتين.
للأسف، وللأسف الشديد: أكثر الذين تعاملوا مع القضية الفلسطينية، وبعدما يقرب من السبعين عاما على النكبة... لم يفهموا مدى الترابط بين المسألة الفلسطينية وما يحاك للمنطقة بأسرها. لم يفهوا بعد فهما حقيقيا أن الفلسطينيين يدفعون الضريبة عن الأمة كلها، منذ ما قبل العام 1948، ولم يفهموا بعد رمزية القدس كمركز للأمبراطورية الجديدة.


خاص مجلة القدس/ الاصدار السنوي العدد 344 كانون الثاني 2018