عاش الشهيد ياسر عرفات طفولته الأولى في القدس، وكان يحلو له دائماً أن يردد أنه مقدسي، فوالدته زهوة أبو السعود مقدسية، ووالده وأخوته عاشوا في القدس قبل أن يرحلوا إلى القاهرة في سنة 1927. وحين توفيت والدته في سنة 1933 في القاهرة، جاء خاله سليم أبو السعود ليصطحب ياسر عرفات (اسمه الأصلي محمد عبد الرحمن) وشقيقه فتحي إلى القدس للعيش في كنف الخال وامرأته الذين لم يرزقا بأطفال. والمعروف أن ياسر عرفات مولود في 4/8/1929، أي بعد يوم واحد من اندلاع هبَّة البراق في القدس في سنة 1929. وفي القدس شهد المرحلة الأولى من ثورة 1936، ورأى بأم العين الجنود الإنكليز وهم يقتحمون منزل خاله ويشبعونه ضرباً ثم يسوقونه إلى الاعتقال، وكان عرفات آنذاك لا يتعدى السابعة.
يقع منزل سليم أبو السعود بجوار الزاوية الفخرية بحي المغاربة من الجهة الشرقية للحائط الغربي، أو حائط البراق الذي يسميه اليهود "حائط المبكى".
وفي 7/6/1967 حين سقطت القدس في أيدي الجيش الإسرائيلي، بادر جيش الاحتلال إلى هدم حي الشرف وسوق الباشورة وجزء من حي السريان وحارة المغاربة في 10/6/1967 بذريعة توسيع الساحة الملاصقة للحائط الغربي، لكن جامع المغاربة والزاوية الفخرية استثنتهما عملية الهدم، ونجا معهما منزل سليم أبو السعود إلى حين، ففي سنة 1969 جرى هدم المنزل الذي عاش فيه ياسر عرفات طفولته الأولى، وكان يلعب مع أقرانه بالقرب من الحائط الغربي حيث يشاهد اليهود وهم يأتون إلى الصلاة أمام الحائط، ولم يمنعه ذلك المشهد من مصادقة بعض اليهود المجايلين له، تماماً مثلما حدث له في القاهرة عندما كان يتردد على منزل صديق له يدعى مراد مرزوق، وكانا جيراناً في شارع طور سينا بحي السكاكيني. ومراد مرزوق هذا غادرت عائلته إلى إسرائيل في سنة 1955، وظل يحن إلى القاهرة، وقال في مقابلة صحافية مع جريدة "يديعوت أحرونوت" في 3/1/1994 إنه كان يلعب مع ياسر عرفات في الحي الذي يسكنان فيه، وفي مشاجرات الفتيان كان يدافع عنه ولم يسمعه قط يتلفظ بكلمات مهينة بحق اليهود، لكنه لم يكن يدع مناسبة إلا ويذكر الجميع بفلسطين وبأصله الفلسطيني. وعلى هذا المبدأ كان يحتفظ بـ "صليب اللورين" الذهبي الذي أهداه إياه الجنرال ديغول وأرسله إليه مع منظمة فرسان مالطا. ولا غروَ في ذلك، فمدينة القدس، على قداستها، لم تكن مدينة متجهمة، بل اتسمت بثقافة منفتحة، بما في ذلك الثقافة الدينية. وكان ذلك يتجسد في الاحتفالات المشتركة مثل موسم النبي روبين وموسم النبي موسى وعيد مارجرجس وأحد الشعانين وأناشيد سبت النور وعيد البوريم اليهودي (عيد المساخر) ومسيرة درب الآلام (درب الجلجلة) التي تبدأ من ساحة المدرسة العمرية حتى كنيسة القيامة أو كنيسة القبر المقدس. والمعروف أن أحد أبناء آل نسيبة المسلمين يقوم في صباح كل يوم بفتح باب كنيسة القيامة، ثم يغلقها في المساء بعد أن يتسلم المفتاح من أحد أبناء عائلة غضية المسلمة. وهذا التقليد يعود إلى سنة 1611 كوسيلة للخروج من دائرة خلافات الطوائف المسيحية على الأحقية في فتح الباب وإغلاقه.

محطات شخصية
في هذه الأجواء الطبيعية تفتحت طفولة ياسر عرفات في القدس أولاً، ثم في القاهرة. أما وعيه السياسي فقد بدأ ينضج في منزل أحد المقدسيين في القاهرة، ولم يكن صاحب المنزل غير عبد القادر الحسيني قائد جيش الجهاد المقدس الذي استشهد في معركة القسطل بالقدس في 7/4/1948، وهناك تعرَّف ياسر عرفات الشاب إلى فيصل بن عبد القادر الحسيني الذي اتخذ من "بيت الشرق" في القدس مقراً سرياً لحركة فتح، ثم مقراً علنياً لمنظمة التحرير الفلسطينية قبل أن تصادره سلطات الاحتلال الإسرائيلي. و"بيت الشرق" بناه إسماعيل موسى الحسيني في حي الشيخ جراح في سنة 1897 بطراز معماري جميل يعكس نمط المعمار الفلسطيني في حقبة الحداثة والمعاصرة. ولعل البدايات النضالية للشهيد ياسر عرفات انطلقت من القتال في جنوب فلسطين حين التحق بجيش الجهاد المقدس في عام 1948.
لم يرَ ياسر عرفات القدس بعد أن غادرها مع عائلته في سنة 1937 إلا في سنة 1964 حين وصل إليها للانضمام إلى المجلس الوطني الفلسطيني الأول، الذي انتهى بإعلان تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، وكانت القدس آنذاك ما زالت خاضعة للإدارة الأردنية. ثم عاد ليزورها مجدداً في سنة 1967 بعد أن سقطت أسيرة في قبضة الاحتلال الإسرائيلي. فعندما اختار ياسر عرفات الذهاب إلى الضفة الغربية في الأول من آب 1967 لإعادة تنظيم المجموعات الفدائية الفتحوية، تسلل أكثر من مرة إلى القدس، وتجول في المكان الذي عاش فيه سنوات طفولته. وفي تلك الآونة كان يقيم في منزل إبراهيم الشنطي في القدس (المنزل رقم 4- شارع القديس مرقص). وحين دهمته القوات الإسرائيلية التي كانت تسعى وراءه من بلدة إلى بلدة، ومن شارع إلى شارع، لم يعثروا إلا على أسلحة، وهكذا أفلت من أيديهم. وكان دافيد رونين الضابط المسؤول عن قسم المطاردة في جهاز الشاباك يتعقبه في جميع أنحاء الضفة الغربية بعدما تسربت معلومات استخبارية عن عبوره نهر الأردن من مخاضة مرج نفخة مع مجموعة فدائية قوامها أبو علي المدني وعبد الإله الأثيري وأحمد قمحية ومحمود أبو راشد ومازن أبو غزالة (الشهيد في ما بعد) وممدوح صيدم (الشهيد أبو صبري) وعمر أبو ليلى وعبد العزيز شاهين وعبد الحميد القدسي ومنصور أبو دامس وعبد الله الجولاني ومحمد علي عمران. والمرة الثالثة التي شاهد ياسر عرفات فيها القدس كانت في 10/11/1995 حين وصل إلى حي نفيه أفيفيم في تل أبيب لتقديم العزاء لأرملة يتسحاق رابين (ليئة رابين). وفي طريق العودة طلب من منظمي موكبه أن يمر بالقدس، وكان له ما أراد، فشاهد أنوار المدينة وقبة مسجد الصخرة والمسجد الأقصى وباب العمود وبعض الشوارع المحيطة بالقدس القديمة.

الثبات المكلف
في مؤتمر كامب دايفيد (11/7/2000) الذي اقتصر على ياسر عرفات والرئيس الأميركي بيل كلينتون وإيهود باراك، علاوة على مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأميركية وجورج تينيت مدير وكالة الاستخبارات الأميركية CIA ومساعديهم، عانى أبو عمار معاناة الرسل، وقاسى الأمرّين جراء الضغوط الأميركية عليه، وجراء إدارة الحكام العرب ظهورهم له في ذلك المؤتمر. ففي ذلك المؤتمر أصر عرفات بقوة على رفض التخلي عن أي جزء من الحرم القدسي حتى مقابل حيفا أو يافا. وكان بهذا الموقف يتصدى لاقتراح إيهود باراك تقسيم الحرم بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فيكون المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة للمسلمين، ويكون لليهود المكان المزعوم لهيكل سليمان. وخاطب أبو عمار الرئيس كلينتون بقوله: "لن أبيع القدس، ولن أوقع أي اتفاقية من دون القدس". وحيال الضغط الأميركي والإسرائيلي المتزايد عليه في مسألة القدس قال أبو عمار لهما إنه لا يستطيع أن يتصرف منفرداً في هذا الموضوع، وعليه الاتصال بالقادة العرب. ولما حاول الاتصال لم يرد عليه إلا واحد قال له: نحن نثق بك، فتصرف كما ترى. حينذاك، وفي خطوة تملصية، قال لكلينتون: أعطوني بياناً موقعاً من الملك فهد والملك الحسين الثاني (رئيس لجنة القدس) ومن الأمين العام لجامعة الدول العربية ومن رئيس مؤتمر الدول الإسلامية، يؤكدون فيه أنهم يتخلون عن القدس لإسرائيلي، حينذاك سأفكر بالتخلي عنها. وفي أحد اجتماعات كامب دايفيد طلب الرئيس كلينتون من الشهيد ياسر عرفات أن يتخلى عن حق العودة وأن يقبل تقسيم السيادة على الحرم القدسي نزولاً عند رغبة الإسرائيليين. فما كان من ياسر عرفات إلى أن رفض هذا الطلب فوراً، وخاطب كلينتون ساخراً: "يبدو أنك لم تنم جيداً البارحة يا سيادة الرئيس". وهنا تدخلت وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت لتقول لأبو عمار: "عليك أن تلزم حدك، فأنت تخاطب رئيس الولايات المتحدة الأميركية". فأجابها عرفات: "إن رئيس الولايات المتحدة الأميركية هذا يعرض عليَّ سجناً لا دولة".

مواقف وتواريخ
في إحدى المرات، بينما كان ياسر عرفات يجري مقابلة صحافية، سأله الصحافي عن القدس ومصيرها، فأجابه بطريقته المحببة: "عَ القدس رايحين شهداء بالملايين". غير أن الترجمة إلى الإنكليزية جاءت مجافية للمعنى وللقصد، وفهم بعض ذوي العقول المحدودة أن ياسر عرفات يريد أن يقدم ملايين الشهداء كي يذهب إلى القدس لمجرد الزيارة. وعندما بلغته تلك الترجمة الشوهاء ضحك وقال إن الذهاب إلى القدس يعني تحريرها، والتحرير يستحق الشهداء بالفعل. وكانت القدس في ذاكرة ياسر عرفات لا مجرد مدينة عاش فيها طفولته الأولى، بل عاصمة لفلسطين الحرة، ومدينة لها تاريخ مرصود ودور مشهود.
فهي المدينة التي عُقد فيها أول مؤتمر نسائي فلسطيني في 26/10/1929، وبالتحديد في منزل زوجة عوني عبد الهادي. وهذا المؤتمر الذي رئسته زوجة موسى كاظم الحسيني عُقد قبل المؤتمر النسائي العربي الأول في القاهرة برئاسة هدى شعراوي (1938). وفي القدس اعتقل مطران القدس هيلاريون كبوجي بينما كان عائداً بسيارته في 8/8/1974 إلى بطريركية القدس مع الأب بطرس جرجيري من الخنشارة في لبنان، بتهمة الانتماء إلى حركة فتح، والاجتماع إلى خليل الوزير (أبو جهاد) في بيروت، ونقل أسلحة وذخائر إلى الفدائيين في القدس. واليوم كما في الأمس، ها هي إسرائيل تعمل على تحويل القدس من مدينة متعددة الأديان والثقافات، كما هي بالفعل وكما ناضل ياسر عرفات والمقدسيون في سبيل هويتها، إلى مدينة يهودية خلافاً لتاريخها العربي.
لنتذكر أن أريئيل شارون جاء إلى الحرم القدسي في 28/9/2000 بحماية مئة رجل أمن، فتلقاه الفتيان الفلسطينيون من أبناء المدينة بالشتائم والسباب. وكان أنور السادات جاء إلى الحرم القدسي في سنة 1977، ونال من الفتيان ما نال شارون بعده بثلاث وعشرين سنة. لم تستغرق زيارة شارون غير نصف ساعة فقط، لكن ياسر عرفات قاد، في أثرها، انتفاضة عارمة من أجل القدس دامت أربع سنوات.
وفي أثناء الانتفاضة حوصر في مقره في رام الله وظل محاصراً حتى استشهاده اغتيالاً.
وها هي أزاهير ياسر عرفات تُزهر حتى بعد غيابه، فغيابه ظل دائماً حضوراً بهياً في حارات القدس وشوارعها العتيقة، وفي أرجاء فلسطين كلها.

خاص مجلة القدس/ الاصدار السنوي العدد 344 كانون الثاني 2018