ابتداءً لا بد من التأكيد على أن القوة لا شرعية لها، وأنها مجرد مظهر سلوكي تمارسه دول القوة غير مكترثة بالإرادة الدولية والأمم المتحدة، وان هذا السلوك في النهاية يشكل عبئاً على الدولة ذاتها بعزلها ومقاطعتها، أما قوة الشرعية فهي تعبير عن الإرادة الدولية التي تجسدها قرارات الأمم المتحدة وهدفها الحيلولة دون أن تفرض القوة ذاتها على الإرادة الدولية، باعتبار أن ممارسة القوة دون الشرعية تهديد للسلم والأمن العالميين.

لذلك تعتبر الدول التي تمارس القوة دون الشرعية الدولية دولاً خارجة على القانون الدولي، وينظر لها على أنها تشكل تهديداً للسلام والأمن العالميين.

في هذا الإطار النظري يمكن مناقشة قرار الإدارة الأمريكية الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. هذا القرار له أسباب كثيرة قد نتناولها في مقالات أخرى ، لكن في مقالة اليوم سأركز على هذا البعد الدولي الذي يعتبر المعركة الحقيقية التي على الفلسطينيين ومعهم الأمم المتحدة التركيز عليها. قوة الشرعية الدولية للقدس وللقضية الفلسطينية التي تظهر في النقاط التالية:

أولاً - تعددية القرارات التي تمثلها هذه الشرعية الدولية، فما بين عام 1947 وحتى الآن هناك ما يقارب ال 185 قراراً دولياً، وهذا مصدر القوة الأول. والملاحظة الثانية أن هذه القرارات لم تصدر فقط عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن بل صدرت أيضاً من قبل كل المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة. والملاحظة الثالثة استمرارية صدور هذه القرارات، فهي تواكب كل مراحل تاريخ القضية الفلسطينية، وهذه الملاحظة مهمة من حيث مسايرة وتزامن الشرعية الدولية مع كل قرار وسياسة تقوم بها إسرائيل.

والملاحظة الرابعة أن هذه القرارات تناولت كل قضايا ومكونات القضية الفلسطينية من الاستيطان إلى اللاجئين إلى المياه إلى الاعتقالات وغيرها. والملاحظة الخامسة أن معظم هذه القرارات صدرت بأغلبيات كبيرة من قبل الأعضاء في الأمم المتحدة ومنظماتها الأخرى، وهنا درجة الشرعية الدولية كبيرة وتصل حد الإجماع والتوافق الدولي الذي ندر وجوده بالنسبة لأي قضية دولية أخرى.

والنتيجة المباشرة لقوة هذه الشرعية أن القضية الفلسطينية بقيت حاضرة دائماً، فهي قضية تتجدد بشرعيتها، وقوة هذه الشرعية أنها لا تسقط بالتقادم فتبقى تداعياتها قائمة وتشكل اختباراً حقيقياً للأمم المتحدة ولجميع الأعضاء فيها. ونصيب القدس من هذه القرارات ليس بالقليل، بل احتلت القدس حيزاً كبيراً من هذه القرارات ، ونظراً لكثرتها أشير فقط لبعض هذه القرارات المهمة :من هذه القرارات، القراران رقم 476 و478 لعام 1980 واللذان أكدا على أن أي ضم للأراضي بالقوة غير شرعي، واعترافهما بالوضع الخاص للقدس وحماية الأماكن المقدسة. ولا شرعية لكل ما تقوم به إسرائيل. بل إن القرار 478 أكد على أن سن إسرائيل للقانون الأساس بشأن القدس يعد انتهاكاً للقانون الدولي ويطالب بإلغائه. بل قد نعود لقرار التقسيم رقم 181 لعام 1947 والذي وضع القدس كلها نظراً لخصوصيتها تحت الوصاية الدولية، وهو ما يعني اعتبار كل ما قد قامت به إسرائيل لاحقاً مخالفاً لهذه الشرعية. والقرار رقم 2253 لعام 1967 الذي أكدت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة على عدم شرعية كل الإجراءات التي قامت بها إسرائيل في القدس. وأصدرت الجمعية العامة قراراً في عام 2003 شجبت فيه نقل بعض الدول ممثلياتها الدبلوماسية للقدس، وعادت في عام 2007 لتؤكد أن كل المستوطنات بمها فيها في القدس تعتبر خرقاً للقانون الدولي.

ومن القرارات الهامة القرار رقم 2334 الذي أصدره مجلس الأمن ولم تمارس الولايات المتحدة ذاتها حق الفيتو ضده ليصدر بالإجماع، واعتبر كل المستوطنات بما فيها في القدس غير قانونية، ولم يعترف بأي تغييرات تقوم بها إسرائيل.

هذه بعض القرارات الدولية التي تؤكد على أن القدس لا يمكن حسم مستقبلها السياسي بأي قرارات أحادية من قبل أي دولة.

هذه الشرعية الدولية لم تقتصر على القدس الشرقية بل الحديث يدور عن كل القدس ، كما في قرار التقسيم المذكور. ولذلك يعتبر احتلال إسرائيل للقدس وتغيير معالمها مخالفاً لهذه الشرعية.

وفي هذا السياق يمكن أن نضع القرار الأمريكي الأخير، فهو أولاً قرار أحادي لا يلغي هذه الشرعية الدولية، بل يعتبر مخالفاً لها، وهو ما يعني فقدانه لأي قيمة قانونية. وثانياً يعبر عن سياسة دولة تربطها علاقات خاصة بإسرائيل. وثالثاً قرارات الدول لا تصنع في عواصم دول أخرى، بل إن إختيار دولة ما لعاصمتها يخضع لاعتبارات سيادية.

وحيث إن القدس تحت الاحتلال فأي قرار حتى من قبل الدولة المحتلة يعتبر نقيضاً للشرعية الدولية الحاكمة لمستقبل القدس. ولذا فإن هذا القرار الأمريكي يعتبر تحدياً للشرعية الدولية، وما تمثله الأمم المتحدة، وعندما نقول الأمم المتحدة نشير إلى الهدف الذي من أجله قامت الأمم المتحدة وهو حفظ السلام والأمن الدوليين.

وتبقى نقطة في غاية الأهمية وهي أن الفلسطينيين لا يطالبون بالقدس الغربية، بل بالقدس الشرقية، وأيضا يطالبون أن تحسم هذه القضية من خلال المفاوضات العادلة والمتوازنة التي تحفظ لهم حقهم في القدس.

وعليه، فالقدس ليست كأي مدينة في العالم فهي لها بعدها الديني الذي ينبغي أن يحترم لكل الأديان ، لها خصوصيتها التاريخية والخاصة للمسلمين.

هذه الوضعية الخاصة ينبغي أن تراعى في آي تقرير لمصير القدس، وهذا ما لم يفعله القرار الأمريكي.

وعليه فإن أحد أهم الخيارات في التعامل مع القرار أن يوضع في مواجهة الشرعية الدولية، وتفعيل دور المسؤولية الدولية بالعمل على إلغائه بتبني القرارات الدولية، وعدم تبني النهج الأمريكي في نقل السفارات إلى أن يتم حسم مستقبل القدس والمطالبة بالاعتراف بالدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية.