بعقل بارد وبرؤية خالصة من الانفعالات العاطفية، يمكن القول بلا تردد؛ إن الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد قرر، وهو يعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل وينقل سفارة بلاده إلى المدينة المقدسة، في مشهد استعراضي لا تخطئه العين، نقول قد قرر بدء معركته الانتخابية مبكراً، لتجديد ولايته الرئاسية لأربع سنوات إضافية، قبل أن ينهي العام الأول من دخوله إلى البيت الأبيض، متوسلاً في ذلك احد أهم العوامل المساعدة على الفوز بشق الأنفس في المنافسة حامية الوطيس بعد ثلاث سنوات، ونعني بها استمالة دوائر اللوبي الصهيوني وأصوات الناخبين الأميركيين اليهود، الذين كثيراً ما كانوا يشكلون بيضة القبان المرجحة في معظم الانتخابات الرئاسية السابقة.

ومع أن هناك الكثير من الدوافع والاعتبارات الأخرى، الدافعة إلى اتخاذ مثل هذا القرار المفتقر إلى الحكمة والمنطق، بما في ذلك الصعوبات والاتهامات المتعلقة بمخلفات المعركة الرئاسية، غير إن الاعتبار الانتخابي المهيمن في العادة على مقاليد الحياة السياسية في الدولة العظمى، يعد الدافع الأول لهذا القرار الذي لا يخدم المصالح الأميركية في المنطقة من قريب أو بعيد، ولا يتفق مع كون الولايات المتحدة الوسيط الحصري لعملية سلام تتنفس اصطناعياً في غرفة العناية المركزة، جراء تخلي واشنطن عن مسؤولياتها، وتبنيها لوجهة النظر الإسرائيلية، الأمر الذي يحملنا على الاعتقاد أن دونالد ترامب لا يفرق كثيراً بين مصالحه الشخصية ومصالح بلاده التي لا حصر لها في منطقة معقدة وشديدة الحساسية.

لسنا اليوم في معرض تحليل الدوافع التي وقفت وراء هذا القرار الأميركي المتهور، ولا نحن بصدد التكهن باعتبارات الرئيس الذي يعاني مع مستشاريه من الاتهامات بصلات حملته الانتخابية مع القيادة الروسية، وإنما نحن اليوم، كفلسطينيين وعرب ومسلمين، أمام استحقاقات منعطف جديد وخطير في مجرى القضية المركزية، منعطف من المقدر له أن يبدل الكثير من المعطيات المحيطة، وان يطرح علينا تحدياً مصيرياً لا سابق له بين جملة التحديات التي تخاطب هذه الأمة الكبيرة، وهو ما يدعونا دون إبطاء، الى الكف عما درجنا عليه في السابق من سياسات مرتجلة وتكتيكات قصيرة النفس، ويطالبنا بضرورة تحمل كامل ما يترتب علينا من مسؤوليات تاريخية جسيمة، والقيام على الفور بمراجعات شاملة وحثيثة، وتغيير أدائنا السياسي والنضالي بصورة عميقة، بما في ذلك اعتماد استراتيجيات بديلة، الشروع ببرنامج عمل وطني ذي كفاءة عالية وفعالية حقيقية.

بكلام آخر، نحن مطالبون اليوم قبل الغد بإنهاء كل المناكفات والمراوغات المتصلة بعملية إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية، لا سيما وانه لم تعد هناك خلافات سياسية يعتد بها، ولا توجد في واقع الحال سلطة حقيقية نتصارع على الظفر بها، ونحن مطالبون أيضاً، قبل أن ندعو الآخرين إلى مد يد الدعم والمساعدة، برد الاعتبار إلى العامل الذاتي الفلسطيني، وتعزيزه أكثر فأكثر في المواجهة اليومية مع الاحتلال، من خلال التوافق على برنامج نضالي بين كافة الفاعلين في المشهد الوطني والإسلامي، قوامه رفع قدرات شعبنا في الصمود والمقاومة الشعبية بكل أشكالها المتاحة، ومواصلة نضالنا على كل صعيد ممكن، بما في ذلك الاستمرار في التحركات الدبلوماسية المثمرة حقاً على الساحة الدولية، خصوصاً في الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة.

وأحسب انه قد حان وقت التوجه إلى الهيئة العمومية في المنظمة الدولية، من اجل العمل على رفع عضوية دولة فلسطين من درجة مراقب إلى مقعد العضوية الكاملة، ومطالبة الدول التي تحفظت على، أو عارضت القرار الأميركي الأخير، بتفعيل مواقفها هذه بصورة ملموسة، واعني به الاعتراف بالدولة الفلسطينية. كذلك لم يعد هناك مبرر لمراعاة الجانب الأميركي، وتأجيل الذهاب إلى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، لجر المسؤولين الإسرائيليين إلى قفص العدالة، ومساءلتهم عما اقترفوه من جرائم مروعة على مدى السنوات الطويلة الماضية، بما في ذلك جرائم الاستيطان والإعدامات بدم بارد، وملاحقتهم على جرائم الحرب الوحشية المتكررة على قطاع غزة، خاصة وانه لم يعد أمامنا سوى العصي بعد ان التهم ترامب الجزرات القليلة دفعة واحدة.

وبما أن كل أزمة تنطوي بالضرورة الموضوعية على فرصة، فأن التحدي المفعم بروح القوة الغاشمة والغطرسة الفاجرة، الذي ألقاه دونالد ترامب في وجوهنا جميعاً، ينبغي الرد عليه بحزم لا تنقصه الحكمة والرؤية المتبصرة، من خلال خطوات رسمية وشعبية متدرجة، نقدر عليها حتماً، لعل في مقدمتها تفعيل المؤسسات التشريعية المهملة، وإعادة تجديد مفاصل الحياة السياسية ومدها بالدماء الشابة، وضم سائر قوى العمل الوطني والإسلامي الى منظمة التحرير الفلسطينية بصورة عاجلة، وحسناً أن نبدأ بدعوة المجلس المركزي إلى الانعقاد العاجل، للتشاور في الأمر واتخاذ ما يلزم من قرارات تكون ابعد من إصدار البيانات الاستنكارية، على أن يلي ذلك اتخاذ خطوات أخرى على طريق تفعيل الأطر القيادية والهيئات التنظيمية والهياكل والمنظمات الشعبية، والحفاظ على قوة زخم التحركات الميدانية الغاضبة ضد قرارات ترامب الاستفزازية، والانخراط بصورة أعمق من جانب القيادات العليا في المظاهرات والاعتصامات والمسيرات الجماهيرية.

ومهما كانت الصورة الحالية بائسة ومكفهرة، فإن قرارات دونالد ترامب المرفوضة على أوسع نطاق دولي، لا تنشئ حقاً قائماً على منطق القوة عوضاً عن قوة المنطق، ولا تغير من الوضع القانوني المسنود بقوة احتلال غاشمة، ولا تبدل الهوية الحضارية العربية الإسلامية المسيحية للقدس الخالدة، ولعل ردود أفعال الدول العربية والإسلامية المنددة بهذا القرار الجائر، ناهيك عن مواقف عدد كبير من الدول الصديقة في القارات الخمس، الرافضة للقرار الأميركي أحادي الجانب، نقول لعل ذلك كله يقدم فرصة فريدة للبناء عليها في القريب العاجل، عبر خيار إشراك العرب والمسلمين معنا في هذه المواجهة المفتوحة، على قاعدة أن التحدي يشمل الجميع دون استثناء، وان القدس مدينة لا تخص الفلسطينيين وحدهم، وان حفظ الأمن والاستقرار في المنطقة يتطلب الاتحاد في مواجهة القرارات الاعتباطية المزعزعة في منطقة مضطربة أساساً، وهذه طريق ليست ممنوعة علينا ولا هي مغلقة في وجوهنا، أن لم نقل إنها باتت مفتوحة في هذه اللحظة المواتية.

وليس لدي شك في إن قرارات ترامب المتهورة، وعبثه الشديد بالقانون الدولي وشرعة الأمم المتحدة، قد عزلت الولايات المتحدة على خشبة المسرح الدولي، على نحو لم تكن عليه في أي وقت مضى بهذه الدرجة من العزلة، وأسقطت دور واشنطن كراعٍ وحيد للسلام في المنطقة، وفتحت الباب أوسع من ذي قبل لتخليص القضية من بين براثن الدولة المنحازة لإسرائيل على رؤوس الأشهاد، ورد قضية العرب الأولى إلى مكانها الطبيعي في الأمم المتحدة. فليس من المعقول بعد اليوم أن تظل الإدارة الأميركية المتخبطة في سياساتها الشرق أوسطية، لا سيما إدارة ترامب المتغطرسة، طرفاً مقبولاً في أي وساطة سلام ، طالما أنها مضت في غيها إلى هذا الحد الذي لم تعرفه أي من الإدارات السابقة، وانجرفت وراء اشد سياسات اليمين الإسرائيلي تطرفاً وعنصرية. فهذه مناسبة يجب ألا تضيع من بين أيدينا، للبناء عليها بكثافة، والتعامل معها كفرصة ثمينة لقلب الطاولة على الذين أرادوا بقراراتهم هذه تكرار فعلة بلفور المشؤومة، بعد مائة سنة، ونحن نستطيع ذلك بقدر معقول من الصبر والمثابرة، ولن نسمح بإحياء وعد بلفور مرة أخرى.