يَحتفي الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده بالذكرى الثلاثين للانتفاضة الشعبية التي بدأت عملياً في 9/12/1987، وقد تميَّزت باستخدامها الوسائل والادوات والأساليب الشعبية في المواجهات والاشتباكات، التي استمرت حوالي خمس سنوات.

إن الشعب الفلسطيني في كل الاراضي المحتلة، وفي الخارج يقف باحترام أمام تضحيات أهلنا في كل بقاع فلسطين التاريخية، وينحني باجلال لقوافل الشهداء شهداء الانتفاضة الذين ضربوا مثلاً رائعاً في الصمود والمقاومة، وصنعوا بدمائهم أعظم إنتفاضة شعبية حققت نصراً رائعاً للقضية الفلسطينية التي كانت تمر في أزمة خانقة، زادت بعد الاجتياح الاسرائيلي العام 1982، وبعد الانشقاق في الساحة الداخلية الفلسطينية.

وحتى ندرك اليوم كيفية مواجهة التحديات العنيفة في الاراضي الفلسطينية بعد تفاقم مخاطر الاحتلال الإسرائيلي، وخططه التدميرية، والدعم الاميركي المطلق للأطماع الإسرائيلية في تهويد القدس، والاستيطان، والهيمنة على الاراضي الفلسطينية، ورفض حل الدولتين، وتجاهل حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم استناداً إلى القرار الدولي 194، حتى ندرك كيفية المواجهة لا بد من العودة إلى مراجعة موجزة لأهم الأسس التي ارتكزت عليها الانتفاضة الأولى، إنتفاضة جنرالات الحجارة، أشبال الثورة، انتفاضة فارس عودة وجيله الناشئ الصامد بوجه جيش الاحتلال المعروف بأحقاده، وعنصريته، وإجرامه.

إن الانتفاضة الشعبية التي إندلعت في 9/12/1987 لم تكن عفوية، أو حدثاً عابراً، وانما هي حلقة جديدة من حلقات الصراع ضد الاحتلال الإسرائيلي، فهناك تجارب ثورية ونضالية سابقة شكلت رصيداً موضوعياً لهذه الانتفاضة، وخاصة يوم الارض 30/3/1976. فقد كانت الانتفاضة عملاً منظماً يمتاز بالفعالية والقدرة على التخطيط، وقيادة العمل من كل جوانبه، وهذا خضع لهندسة دقيقة رسمها مهندس الانتفاضة الشهيد خليل الوزير أبو جهاد. وهذا ما أسهم في تشكيل قيادة ناجحة للعمل الميداني اليومي. هذه القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة في الداخل استطاعت أن توحِّد الصف الفلسطيني بكافة قواه، واتجاهاته، والذي يحتكم إلى قرار قيادة م.ت.ف. ولا شك أن إلتزام هذه القوى الفلسطينية بالبرنامج الذي تقره القيادة الوطنية الموحَّدة ساعد على تذليل المصاعب، وقطع الطريق على كل من يحاول إثارة الفتن والنعرات.

وحتى تنجح الانتفاضة في تنفيذ برامجها كان مطلوبا منها الالتزام بمجموعة حقائق:

أ- كان عليها أن تؤكد بأن الشعب الفلسطيني ملتف حول ممثله الشرعي والوحيد. وأن هذه الانتفاضة ليست بديلاً، ولا نقيضاً، ولا تشكيلاً متوازياً، وانما هي جزء لا يتجزأ من برنامج م.ت.ف.

ب- لقد كرَّست القيادة الوطنية الموحدة منهجاً وطنياً متصادماً مع الاحتلال، باعتبار الاحتلال هو العدو الاساسي وهذا يتطلب حشد كافة القوى ضده، والعمل المشترك معاً لتعزيز دور قيادة م.ت.ف على التحرك عربيا، ودولياً، وفلسطينياً، وتجنيد مختلف القوى لنصرتها.

ج- صحيح أن بعض الاطراف التي التحقت بالانتفاضة بعد انطلاقتها مثل حركة حماس وحركة الجهاد كان لها إجتهاداتها بالنسبة لبعض البرامج، وأوقات تنفيذها، إلاَّ أن ذلك لم يؤثِّر على مسيرة الانتفاضة، لانه أمرٌ طبيعي يحصل عادة في العلاقات الجبهويه بين الأطراف التي يجمعها إطار قيادي واحد. وكان التوجه الاساسي المشترك بين الجميع هو تصفية الاحتلال وتدميره، ونيل الاستقلال الوطني.

د- كانت مسؤولية قيادة الانتفاضة كبيرة ودقيقة من أجل الحفاظ على أساليب مقاومة الاحتلال، والادوات التي يجب استخدامها، لأن أيَّ خلل مُتعمَّد باستخدام وسائل أخرى غير متفق عليها، أو قبل أوانها، سيجرُّ الانتفاضة إلى إنحرافات خطيرة لا تخدم الرؤية الوطنية، أي حرف الصراع مع الاحتلال من مقاومة شعبية إلى مقاومة مسلَّحة بدون إجماع وطني.

ه- من واجب قيادة الانتفاضة، أن تُفهم الاحتلال الاسرائيلي، بأن الشعب الفلسطيني الذي يقاوم الاحتلال بالحجارة، والعصي، والزجاجات الفارغة والحارقة، هو شعب يملك الوعي الكامل، والارادة الصلبة، والعقيدة الراسخة، والخبرة، وحسن الادارة، والقدرة على بناء المؤسسات الشعبية. وهذا ما يجعله يشعر بأنه أمام شعب على مستوى من الوعي الوطني، وتحمُّل المسؤولية.

و- كانت الخطوة الأهم أمام الانتفاضة هي أن تنبِّه الامم المتحدة إلى القيام بواجباتها الأساسية، وفي مقدمتها حماية الشعوب المضطهدة والتي تعاني من الاحتلال، من أجل نيل الحرية والسيادة. وهذا الأمر أصبح اكثر إلحاحاً مع فضح الموقف الاسرائيلي العنصري، الذي استخدم الرصاص والقنابل لمواجهة الأطفال والنساء والشيوخ والطلاب.

ز- بفضل هذه الانتفاضة التي استخدمت المقاومة الشعبية، تم تحصينُ القضية الفلسطينية، وساعدها على ملاحقة الاكاذيب والادعاءات الصهيونية في عواصم العالم، وأن ترسم صورة جديدة تشرح معاناة شعبنا.

ح- إن المعطيات تؤكد أن الانتفاضة لم تكن هبة عاطفية أو تحركاً عفوياً ، أو مجرد رد فعل على حدث معين. فما جرى آنذاك أكَّد أن التحضير لهذه الانتفاضة الشعبية قد تمَّ بدقة تنظيمية، وعناية مدروسة، وبُعد نظر سياسي. ولا شك أن من بذل القسط الأكبر من هذا الجهد كان خليل الوزير أبو جهاد وفريقه المساعد بعد أن تمكن من جعل عمان نقطة إنطلاق إلى داخل الاراضي الفلسطينية، بعد اتفاق عمان بين الاردن وم.ت.ف العام 1984.

ط- إنَّ قيادات الداخل كانت تمتلك الخبرة والدراية الكافية، في مختلف الميادين النضالية والحياتية، والادارية، والثقافية عبر تجربتها الطويلة. ولذلك وفي إطار الترتيبات لمرحلة الانتفاضة نجحت في تشكيل اللجان الشعبية التي كانت مهمتها إدارة الشؤون الداخلية للمدن والقرى والمخيمات الفلسطينية. وهذه اللجان الشعبية كان الاعتماد عليها لأنهم تحسن كيفية التعاطي مع سلطات الاحتلال، وتعرف خططها وأساليبها في مواجهة التظاهرات الشعبية. وهذه الخبرة ساعدت اللجان في تصليب الوضع الجماهيري، ووضع الخطط المناسبة، واستخدام الوسائل الأكثر إيلاماً ومضايقةً، وتعزيز عوامل الصمود الذاتية.

ي- علينا أن نتذكر بأن الانتفاضة الأولى شكَّلت مرحلة النضوج الثوري الفلسطيني التي سبقتها مراحل التخطيط والاعداد. إنَّ انطلاقة الانتفاضة جاءت في مرحلة فلسطينية وعربية غاية في التعقيد، وكان يقال عن ذاك الزمن انه الزمن العربي الرديء، نظراً لحالة التفكك والصراعات التي سادت العلاقات العربية. ولذلك جاءت الانتفاضةُ لتعيد الثقةَ للانسان العربي والفلسطيني، الذي كان مصاباً باليأس والاحباط. وباتت الانتفاضة هي الحلم الذي يراود الجميع.

لقد فرضت هذه الانتفاضة حقائق جديدة على كافة المستويات أعادت لمنظمة التحرير الفلسطينية هيبتَها، واشراقتها، وللوطن عظمته وأصالته. فالقمة العربيةُ عُقدت في الجزائر في الاسبوع الاول من حزيران 1988. والمجلس الوطني الفلسطيني عُقِد في 12/11/1988، وفي هذه الدورة المميزة التي شهدت إنهاءَ الخلافات الفلسطينية الداخلية، أعلن الرمز أبو عمار قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.

صحيح أن شرارة إندلاع الانتفاضة الأولى كانت في 8/12/1987 عندما قامت شاحنة للعدو الاسرائيلي بصدم سيارتي تكسي تُقلان عمالاً فلسطينيين أثناء توقفهم على حاجز إيرز العسكري، وبشكل متعمَّد على طريق عمان مما أدى إلى استشهاد أربعة فلسطينيين، وجرح سبعة آخرين، والشهداء هم طالب محمد عبدالله أبو زيد من مخيم المغازي، وعصام محمد حموده من مخيم جباليا، وشعبان سيد نبهان من بلدة جباليا، وكمال قدورة حسن حمودة من بلدة جباليا.

وقبل هذا الحدث بثلاثة أسابيع أي في 17 تشرين أول 1987 ارتكب جنود الصهانية جريمة بشعة عندما اغتالوا ثلاتة مواطنيين  فلسطينيين على مدخل البريج جنوب مدينة غزة. وقد تمَّ اغتيالهم بعد أن أُنزلوا من السيارة، وتم التحقيق معهم وهم سعيد أبو هادي (31 عاماً) في حالة خطرة، وسعيد قراف(20عاماً)، وعبد الندى صرصور 42 عاماً، ورأفت متران (23عاماً) . وقبلها في 10/11/1987 أطلق جنود الاحتلال النار على تظاهرة في الضفة وفي مخيم بلاطة، وأخرى في دير البلح واستُشهدت الطالبة انتصارالعطار (17عاماً).

إلاَّ أنَّ الحدث الأبرز اليوم على الصعيد الفلسطيني له أبعاد إسلامية، وقومية، خاصة فلسطينية، فنحن اليوم أمام التحدى الاكبر، والذي لا يمكن التساهل معه، ويجب التعاطي معه بأعلى مستوى من الاهمية والتركيز والتحدي، لأنه يتعلق بجوهر القضية الفلسطينية. فالذي لا شك فيه أن الرئيس الاميركي ترامب ارتكب جريمة العصر المكمِّلة لجريمة وعد بلفور. فهو عندما يعترف بأن القدس الفلسطينية والعربية هي عاصمة  لإسرائيل الصهيونية المحتلة لكل الاراضي الفلسطينية، ويعطيها بذلك الحق في أن تمارس ما تشاء من تهويد، واستيطان، وتدمير، وتهجير، واعتداء على المقدسات الاسلامية والمسيحية، وعلى كل المؤسسات الفلسطينية المقدسية، كما أن ترامب أعرب في قراره الصهيوني  الحاقد على الشعب الفلسطيني، انه من منطلقاته وجذوره الصهيونية لا يسأل عن السلم الدولي، ولا عن شعوب المنطقة، ولا عن المؤسسات والهيئات الدولية، وانما الهم الأول لديه هو حماية الكيان الصهيوني، وتحقيق أحلامه، وفرض نفوذه عل المنطقة، ودعم سياساته المدمرة لمستقبل فلسطين وشعبها، خاصة دعمه للاستيطان ، والحصار القائم، وارتكاب الجرائم بحق الفلسطينيين، وتحويل حياتهم إلى جحيم. وعدم الاستماع إلى كل النصائح الدولية، وانما سياساته تقوم على دعم الاحتلال بوجه دول المنطقة، وارغام الكثير من الدول على تطبيع علاقاتها مع الكيان الصهيوني.

هذا الواقع لا شك سيفجِّرُ الانتفاضة الفلسطينية الثالثة التي ستستقوي بالمصالحة الفلسطينية لتجسيد وحدتها الوطنية، واعتماد إستراتيجية فيها شمولية التعاطي سياسياً، ومقاومةً ، واقتصاداً، وإعلاماً، تكون بمستوى تحدي الجريمة التاريخية التي ارتكبها دونالد ترامب باعترافه ان القدس عاصمة الاحتلال الاسرائيلي. وعليه أن يتحمَّل مسؤولية  هذه القرارات  الرعناء. من الطبيعي أن يستند قادة الانتفاضة الثالثة إذا حصلت ان يستندوا إلى تجربة الانتفاضة الأولى وحيثياتها، مؤكدين أنِّ الشجاعة، والبطولة عند كافة الأطراف تتجلى في أتخاذ مواقف صريحة، وصادقه، ومباشرة في دعم القضية الفلسطينية، والانتصار للقدس وأقصاها، والتمسك بالارض المباركة التي وهبنا اللهُ  إياها لنحميها كي تكون حصناً مقدساً بوجه أعداء أمتنا وشعبنا.

عضو المجلس الثوري لحركة فتح

الحج رفعت شناعة

9/12/2017