في الحادية عشرة ليلاً كان هاتفي النقال يطلق رنيناً مزعجاً، ولأنَّ الجميع يعرفون برنامج حياتي وبأني أقدس النوم مبكراً وكذلك الاستيقاظ، لم أهتم بإغلاق الهاتف تلك الليلة لكي يرن هذا الرنين المزعج والمفاجئ، وحين كنت أحاول أن أطرد النوم من خلايا رأسي، جاءني صوتها باكياً، وحين استوعبت الأمر بأن التي تبكي على الخط الآخر هي فتاة في منتصف العشرينيات من عمرها وأمها صديقة لي من بعيد، كنت أنهض من سريري وأجوس في أرجاء البيت في حيرة واستغراب وغضب.

استرجعت حياة هذه الفتاة وعائلتها بعد أن هاتفتني باكية في هذا الوقت المتأخر، وكانت تدور في شوارع المدينة على غير هدى، نعم فأنا لم أبالغ في التعبير؛ فقد طردها والداها من البيت وأغلقا باب الأمان في وجهها، وأصبحت وحيدة في الشارع بهذا الوقت، ولا تدري أين تذهب ولدى من تلوذ؟ فخطر على بالها أن تتصل بي لأني حاولت مراراً أن أتدخل لدى أمها لحل مشكلتها دون جدوى.

ابنة صديقتي التي أصبحت أتعامل معها بحذر وبطريقة رسمية بعد أن اكتشفت ما تفعله مع ابنتها وباقي أولادها، فهي تتكلم دوماً عن اقتصاد زوجها، وتدبيرها وبأنهما يدخران مبلغاً كل شهر من راتبه القليل، وكنت في بادئ الأمر أعجب بما تقوله حتى دخلت بيتها لأول مرة وتمنيت قبل ذلك أن أدخر مثلها، ولكن دخولي لبيتها كشف لي عن فداحة ما تفعله بأطفالها الذين هم في سن أولادي.

ملابس بالية، جدران متسخة متآكلة الطلاء، غرف نوم بلا أثاث فهم ينامون على حشيات أرضية، ولا وجود للألعاب بالطبع في بيتهم، كما أنَّ البلاط كان عارياً في جميع أنحاء البيت، وليس هناك ما يبعث على الدفء وكنت زرتها في عز الشتاء، وحين قدمت لي الشاي مع بعض البسكويت هرع أطفالها لتلقفه من أمامي، فزجرتهم بقسوة ورفعت ما تبقى في الطبق من أمام الجميع وأخفته في غرفتها.

 أدركت من خلال هذه الزيارة التي لم أكررها أنها هي وزوجها يدخران المال على حساب سعادة هؤلاء الأطفال، وعلى حساب توفير متطلباتهم، وبعد هذه الزيارة علمت أنَّ ابنتها الكبرى قد ضبطت في حادثة سرقة بالمدرسة وكانت هذه بداية العقاب لما تقترفه الأم بمساعدة الأب بحق الأولاد.

تقربت مني الابنة الكبرى حين أنقذتها من فضيحة كادت أن تخرج من بين جدران المدرسة، وجرى التكتم على الأمر لتصارحني ابنة صديقتي بأنها تشعر بحرمان قاتل بسبب ملابسها الرثة وعدم حصولها على مصروف مثل زميلاتها.

مرت السنوات وبدأت أسمع عن حوادث سرقة يقوم بها أبناء هذه الأم، سواء الذكور أو الإناث منهم، وكلها حوادث تدور حول سرقة الحلوى من محال السوبر ماركت، وكذلك  الملابس والتي حولت ابنة صديقتي لمحترفة بهذا الأمر، فهي تدس بخفة قطع الملابس في جيوبها أو في حقيبتها، وقد أمسك بها أصحاب المحال عدة مرات، وعفواً عنها أمام دموع عينيها الخضراوين، ولكن مع توفر تقنية كاميرات المراقبة توقفت الابنة عن هذه الصنعة واتجهت اتجاهاً جديداً.

الابنة سرقت مصاغ والدتها الذهبي، وقد اعترفت أمام والديها بذلك بعد أن تصرفت فيه خلال فترة قصيرة، فقد سلمته لصديقة تكبرها بأعوام لكي تبيعه بسرعة وحصلت هذه الصديقة على الجزء الأكبر من ثمنه مقابل تصريف المصاغ المسروق، وحين اعترفت بما فعلته قام والدها بربطها في سقف البيت وانهال عليها ضرباً بسوط من الجلد، وتركها لعدة أيام معلقة دون شراب أو طعام.

بعد هذه الحادثة، بدأت مقاطعة الابنة من قبل الوالدين، وأصبحا لا يتحدثان معها ولا يسمحان لها بالجلوس لطاولة الطعام مع باقي إخوتها، وشيئاً فشيئاً اعتزلت في غرفتها وليس أمامها سوى أن تقتات من فتات الطعام؛ جزاءً لها على فعلتها، وقد مرت سنوات ثلاث على هذه الفعلة ولم يتغير شيء في حياتها حتى حانت اللحظة واستطاعت أن تسرق مبلغاً صغيراً من جيب والدها، وهي تعاني الجوع والعرى والإهمال، فكشفها والدها وانهال عليها ضرباً، وألقى بها هذه المرة في الشارع.

وقفت عاجزة أمام مشكلة هذه الفتاة، والتي جاءني صوتها باكياً في وقت متأخر، ولم أدر كيف أتصرف ولكني طلبت منها أن تنتظر أمام باب البيت بل أن تلتصق به حتى يفتح وتدفع بنفسها داخله بكل قوتها لأنَّ البيت الذي طردها منه الأب سيكون أكثر رحمة من الشارع الذي لم يفكر الأب لحظة ما الذي يمكن أن يفعله بابنته؟.