حوار: هيئة التحرير

مارسيل منصور فنانةٌ تشكيليةٌ، وكاتبةٌ، وشاعرةٌ، وصحافيةٌ، وسفيرةُ السلام العالمي من سيدني، قد مُنِحَت وسام الاستحقاق في أستراليا لخدماتها في الفنون المرئية، والأدبية، والمجتمعية للجاليات الأسترالية ذات الخلفية العربية. مارسيل منصور التي تمَّ تكريمها من قِبَل الملكة اليزابيت الثانية، تُعدُّ أول أسترالية فلسطينية تحصل على هذا الوسام الملكي الرفيع المستوى، وهي دائمةُ البحث عن الجديد والتجديد، صاحبةُ اليدين اللّتين لا تكلان عن التجذيف في رحلة بدأت من فلسطين، ولا تريدُها أن تنتهي إلّا في فلسطين.

مارسيل منصور
وُلِدَت بمدينة غزة، وتعلَّمت فنَّ الرسم، وتفوَّقت على أقرانها حتى باتت موهبة الفن وسيلةَ التعبير عن ذاتها. نالت تعليمها الأكاديمي في الأدب الإنجليزي من جامعة "عين شمس" في مصر عام 1977. عمِلَت خلال دراستها في الكويت كمدرِّسة، ثُمَّ مضيفة طيران ممَّا جعلها تسافر، وتجول في رحاب عوالم الفن والمدارس التقليدية والحديثة. فور هجرتها إلى أستراليا العام 1977، حصلت على مؤهلاتٍ في الترجمة والسفر والسياحة، وبعد أن عملت في مدينة سيدني موظفةً حكوميةً إداريةً لمدة طويلة، حصلت على درجتَي الماجستير في "الفن المعاصر" في استوديو الفنون عام 2012 و"الفنون الرفيعة" العام 2014. عمِلَت على إقامة المعارض الفنية الفردية، وشاركت في المعارض الجماعية محليًّا وعالميًّا.

ورغم انخراط مارسيل ونجاحها في المجتمع الأسترالي، إلا أنَّها ظلَّت فلسطينية الدم تنتمي إلى والدين هاجرا من يافا فلسطين الجريحة. قد يكون التعريف الأصدق بمارسيل هو أنَّها نسيجُ خيوطٍ فلسطينيةٍ نُسِجَت بأسلوب وطني معاصر، قد جمع بين الثقة العالية بالذات، والانفتاح على العالم، والإنتاج الفني الخلّاق، ولهذا فإنَّ الفنانة مارسيل منصور مفخرةٌ للجالية الفلسطينية في أستراليا، وكنز ثمين نعتزُّ بوجودها بيننا.


هل لكِ أن تصفي لنا شعورك بتكريمك بوسام "الاستحقاق"؟ وماذا يعني لك كونكِ أوّلَ سيّدة أُستراليّة من أصلٍ فلسطينيٍّ تحصلُ عليه؟
لقد كانَ لي الشرف العظيم، وبكل تواضع، بتكريمي عبر منحي وسامَ "الاستحقاق" في أستراليا، الذي أُعلِنَ عنه في قائمة تكريم عيد ميلاد الملكة في 12 حزيران 2017، خصوصًا أنَّه في خدمة مجالات مختلفة: "الفنون المرئية، والفنون الأدبية، والمجتمع،...". لا شكَّ أنَّه شعورٌ رائع، وأنا مُمتنّةٌ لهذا الاعتراف الرسمي من قِبَل الدولة بأعمالي، وبجهدي الدؤوب على مرِّ السنين، وأعتبرُ أنَّ هذا التكريم تكريمٌ لكلِّ امرأة فلسطينية في أستراليا، وفي فلسطين، وفي الخارج، ولكلِّ امرأة مهاجرة، وأتقدُّم بالشكر إلى جميع الأحباء الذين قدَّروا ودعموا أعمالي آملةً رؤية المزيد من الأستراليين على قائمة الشرف، وخصوصًا المهاجرين، ومن ذوي الجذور الفلسطينية، بما فيهم السيّدات والشباب.


مُنحتِ وسام "الاستحقاق" لخدماتك في مجالات متعدِّدة، فما هي أبرز إنجازاتك في كلٍّ من هذه المجالات المختلفة؟
إنجازاتي تتلخَّص في أعمالي التي قمتُ بها في رحلة حياتي من حيثُ العمل الفني المرئي، والأدبي، والمجتمعي، والإنساني، وكلُّها تصبُّ في خدمة قضايا متنوِّعة مثل قضية فلسطين، وشؤون المرأة، والشبيبة، والثقافة، والتعددية، وبناء السلام العادل، وغيرها.
فخدمةُ الفنون المرئية مثلاً، مارستُها مهنيًّا منذ أوائل الثمانينات، وقد شاركتُ في المعارض الفردية والجماعية على المستويَين المحلي والعالمي، وعمِلتُ كفنانة مستقلّة، وأيضًا كفنانة تشكيلية للجالية، منذ تأسيس مبنى "النادي الأسترالي الفلسطيني" في جيلفورد على زمن الراحل يوسف ضبيط، أذكرُ من المعارض: معرض "الماضي والحاضر والمستقبل"- في عين الأستراليين الفلسطينيين- عام 1996، عن النكبة، والاحتلال، والشتات، ومستقبل الحرية، وتقرير المصير، وتبني السلام العادل، ومعرض "صُوَر من الحكمة" عن التراث الفلسطيني في المتحف الأسترالي عام 1997، ومعرض "الأمواج المتحرّكة" مع إطلاق الكتاب بالإنجليزية في برلمان الولاية حيث تزامن مع الأولمبيات عام 1998، وقد شمل اللوحات الفنية، والشعر، والبورتريه، مع السيرة الذاتية لشخصيات مرموقة من أصول عربية تضمَّنت قصص الهجرة الناجحة، وتبني الوطن الجديد، وإبراز الجانب المضيء لجالياتنا، وإلهام الأجيال الصاعدة. كما أقمتُ معرضًا فنيًّا، مؤخَّرًا بعنوان "كنز للأبد" 2016 في السنة العالمية للتسامح، عن بعض الشخصيات المرموقة من الجاليات الإثنية من أجل إبراز نخبةٍ من هؤلاء الذين ساهموا في بناء المجتمع الأسترالي الـمُتعدِّد الثقافات، أذكرُ منهم رجل الأعمال الناجح أمين سر حركة "فتح" في أستراليا الأسترالي الفلسطيني الأصل السيد عبدالقادر قرانوح، بغرض العمل على احترام الآخر، والتآخي، والتسامح، وغرس بذور المحبّة بين الجميع، والحثِّ على الاندماج في المجتمع الأسترالي، والولاء له.
ومن أعمالي في الفن الـمُعاصر، أذكرُ الندوة والمعرض الضوئي بعنوان "نقطة التحوُّل"، من أجل إنهاء الحرب، وتحقيق الحرية والسلام العادل لفلسطين المحتلة، وبناء السلام في العالم كجزءٍ من برنامج الأمم المتحدة في السنة الضوئية العالمية عام 2015. ومعرض وندوة "أداة من أجل السلام العادل" في برلمان الولاية بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للسلام، حيث دعوتُ السياسيين، ومسؤولي الجاليات إلى التغيير الجذري، والتحول الحقيقي في الفكر والقلب، من خلال إعادة النظر في العُمق لرؤية الحقيقة المستترة، وتقرير المصير تجاه القضية الفلسطينية.
أمَّا في خدمة الفنون الأدبية فقد بدأتُ مشواري في الكتابة عندما فزتُ في المسابقة التي أجرتها صحيفة النهار، وهي جائزة "النهار" الأدبية لأفضل بحث يتعلَّق بأستراليا، حيث كان ناشرها ومدير تحريرها الراحل الصحافي المخضرم بطرس عنداري، احتفالاً بالعيد المئوي الأسترالي لعام 1988، وكان موضوع بحثي الذي اخترتُه عن "نضال المرأة العربية المهاجرة في أستراليا". بدَأت من هناك انطلاقتي في الكتابة، فكان لي عمود أسبوعي مُنتظِم بعنوان " كلمة عابرة "، وكتبتُ عن مواضيع متنوّعة منها فكرية، ومنها أدبية، إلى جانب كتابة الشعر، فأحببتُ الممارسة في هذا المجال، لأنَّه أصلاً من صميم اختصاصي في فنون الأدب، هذا إلى جانب جزء من العمل الإذاعي والصحافي استطعت خلاله مقابلة بعض الشخصيات السياسية والثقافية المرموقة. وحاليًّا ما زلتُ أمارس الكتابة، ويمكن الاطلاع على أعمالي المرفوعة على الموقع الإلكتروني الخاص بي: (www.marcellemansour.com.au).
بالنسبة لخدمتي في المجتمع، فهي ترتكز على حب العطاء الغزير في خدمة الجاليات الأسترالية ذات الخلفيات الناطقة بالعربية، بما فيها الفلسطينية، ودعم الجمعيات الخيرية من خلال أعمالي الفنية، بالإضافة إلى المساهمة في العمل الصحفي والأدبي.


هل ترسمين لتُعبِّري عن ذاتك لذلك الآخر الذي يجهلك؟ أم أنك ترسمين لتطرحي قضاياك التي تؤمنين بها مهما كانت وجهة نظر الآخر منها؟
بالتأكيد أنا أطرح قضايا تعنيني كشخصية فردية وجماعية في آنٍ واحد، وهي حقيقة إحساسي بالفن للتعبير عمَّا يجول في ذهني من أفكار وخواطر تتماشى مع قضايا العصر التي تُهمُّ الفرد منا، والوطن، والإنسانية جمعاء، لأنَّ الفن برأيي هو محور السياسة والعلاقات الاجتماعية، فمن خلاله نعبِّر عن ذواتنا، وتاريخنا، وتراثنا، وعاداتنا، وتقاليدنا، وله دور فعّال في التفاعل بين الأفراد والشعوب، وفي العمل على التحوُّل الفكري والإصلاح الفعلي في تغيير مجتمعاتنا وحياتنا إلى الأفضل. تراني أحيانًا أرسمُ المناظر الطبيعية الساحرة في أستراليا وفي بلادي الأم، وتارةً أخرى وجوهَ الأشخاص، كما أنَّني استخدمُ تقنيّة الضوء في كثير من الأحيان، ولهذا تراني أمزجُ بين الأصالة الفلسطينية والحداثة الأسترالية.


لماذا اخترتِ الرسم بالضوء بالذات؟
لقد استخدمتُ الضوء والإدراك الحسي الإنساني كمادةٍ أساسيةٍ في رسمِ لوحاتي ذات الطابع الفني المعاصر، كوسيلة للتأثير على الأذهان البشرية قلبًا، وعقلاً، وروحًا، وقد اخترتُ الرسم بالضوء بالذات، لأنَّ النّور رمز المعرفة والحكمة، إذ يُشعرنا بالوجود الإلهي الحاضر المستتر الـمُطلَق. كما أنَّ تغيير الألوان الضوئية المتحرّكة يُشعِرُنا بالحركة الديناميكية الدائمة، وبالتالي يعكس ما يدور بخلدنا من أفكار، وخلجات، ويُعبِّر عن ذواتنا، وتراثنا، وآمالنا، وأهدافنا المستقبلية ذات التغيير الدائم. أيضًا فالنور بوجه عام يساعدنا على التفكير، وإعادة النظر في شؤون حياتنا ومشاكلنا، من أجل إعادة صياغة مجتمعاتنا، وتشكيل واقعنا، وتغييره نحو الأفضل، والتقدُّم نحو المفهوم الإنساني العادل ككل.
ما صحة ما يُقال عن أنَّ الفنانين التشكيليين لا يحصلون على مردود مالي يوازي مجهوداتهم؟
إنَّني بالطبع أمارس الفن التشكيلي باحتراف، وأصرف عليه ببذخ من مالي ووقتي. ولا بدَّ من الإشارة لوجود نوعَين من الفن المرئي المحترف. النوع الأول يهدف إلى الثراء وتحقيق الربح المادي، والنوع الآخر يهدف إلى معالجة القضايا المجتمعية والإنسانية، وفي النوع الثاني، لا يهم الفنان أن يكون ثريًا، بل هو يُضحي في سبيل مبدأ أو قضية إنسانية يُؤمِن بها. فقد كانت لوحاتي ذات المناظر الطبيعية تُباع في المعارض المرموقة مع كبار الفنانين، وكذلك اللّوحات المعبِّرة عن القضية الفلسطينية حيثُ يقتنيها هؤلاء المؤمنون بها، وقد ركّزتُ حاليًّا في الفن المعاصر على إنتاج لوحات فنية ابتكارية شكلاً وموضوعًا، تتميَّز بالمفاهيم العميقة في المعنى، والثرية في المغزى، وقد عرضتُ أعمالي في نيويورك وباريس. ومهما كان فإنَّ السوق الاقتصادي يعتمد على التذوق الشخصي للفرد، ومستوى فهمه وتقديره للفن، من حيث اقتنائه واستثماره كقطعة فنية.


إلى أي مدى برأيك تُشكِّل الرسومات التصويرية دليلاً لإثبات الحق التاريخي؟
لِلوحاتِ التصويرية أهمية كبيرة في توثيق التاريخ، ووصف الحياة في منطقة ما، وهناك لوحاتٌ فنية من إنتاج الفنانين الأوروبيين، تشرح كل شيء عن فلسطين، بما يفوق مسألة الزي والمباني، بل إنَّها تُحدِّد العِرق نفسه، ومَن كان يسكن في فلسطين، باعتبارها مهد الحضارات والديانات الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام. أمّا عن تجربتي الشخصية فقد وُلدتُ في فلسطين، وهاجرتُ إلى أستراليا بإرادتي، وحملتُ معي صُوَر والديّ في يافا قبل هجرة 1948، ورغم جنسيتي الأسترالية المحبَّبة إلى نفسي، ورغم شعوري بالولاء لوطني أستراليا، إلا أنَّني ما زلتُ أعتزُّ بهويتي الفلسطينية، وأعملُ على توثيقها تاريخيًّا كجوهر أعمالي، لأنَّ جذورها في القلب لن تموت أبدًا.
في التاريخ الفلسطيني ارتبطَ الفن التشكيلي بالكنيسة، ورسم الأيقونات المقدَّسة، فكيف أثّر بكِ هذا الإرث الفني؟
فنُّ رسم الأيقونات هو مدرستنا الأولى، وقد وُجِدَت في الأصل من أجل شرح وتعليم الديانة المسيحية بصريًّا، ومنها انطلقَ الفنُّ التصويري في أوروبا، وكوني مسيحيةً فقد رسمتُ بعض الأيقونات للقديسين، وهذا النوع من الخبرة منحني القدرة على استيعاب هذا الفن من دون أن أحصر نفسي داخله، فقد دمجتُ في أعمالي التراث الشرقي مع الغربي، وتأثَّرتُ بالروحانيات والفلسفات المعاصرة،  كما أنَّني استخدمتُ الضوء في الفن التجريدي ذي الأشكال الهندسية، والخالي من الصُّوَر التشكيلية، وبذلك سخَّرت فني وطوَّعته من أجل أن يُخاطبَ جميع الناس. ومن الممتع أيضًا أنَّه غالبًا ما تُصاحِب مَعارضي الفنية ندواتٌ بصُوَر توضيحية أو حديث الفنان.


ضريبة الهجرة هي الابتعاد عن الوطن بما يحمله من لحُمة بين مكوّناته، هل هناك تواصل بينك وبين الفنانين الفلسطينيين؟ وهل هناك تقارب بين أفكار رسوماتك ورسومات الفنانين الفلسطينيين؟ وما هو الوسط الفني الحاضن لك؟
دعني أجيب على الشق الثالث من السؤال أولاً، فأنا فنانة أسترالية من أصول فلسطينية تحمل الجنسية الأسترالية والولاء للوطن. بمعنى أوضح، أنا أتواصلُ مع مكوِّنات المجتمع الأسترالي، ولي أصدقاءٌ وصديقاتٌ من أبناء الجالية العربية، والجاليات الأوروبية، والآسيوية، وأرفض الانطواء على الذات، لأنَّني أمتلكُ ثقةً عالية بأنَّ فلسطينيَّتي في الأصل والجذور تجعلني أجملَ من أيِّ أسترالية أخرى، وهذا ليس غرورًا مني بقدر ما هو صدق التعبير عن الذات، وسلاسة الحديث المنفتح عن فلسطين كقضية تاريخية، وحضارية، ودينية، قبل الحديث عنها كقضية سياسية، وجميع أصدقائي يُؤيِّدون الحق الفلسطيني بضرورة استعادة الوطن والحق المشروع. هذا الحاضن الفني والاجتماعي جعلني أتمسَّكُ بواقعية حالنا في هذا المهجر البعيد، لذا فإنَّ تواصلي مع الفنانين الفلسطينيين شبه معدوم بسبب هذه الظروف، إلا أنَّني أتابع أعمال العديد من الفنانين المميّزين في الوطن والشتات، وأرى أنَّ الفلسطيني قادرٌ على التواصل مع الآخر لأنَّنا نملك نفس الخطوط التي تنسج حب الوطن، وعدم التخلّي عن جذورنا ومسقط رأسنا، وضرورة إنهاء الاحتلال والحرب، والعمل على استعادة الأرض المسلوبة والحقوق الشرعية في تحقيق السلام العادل.


هل من كلمة أخيرة؟
أودُّ أن أشكر مجلّة "القدس" على اهتمامها بالجالية الفلسطينية في أستراليا، ونشر تقارير عن فعاليّاتها، وشكرًا جزيلاً على إتاحة الفرصة لي للتواصل مع أهلنا في الوطن والشتات الفلسطيني. كما أودُّ أن أُهدي تقديري واحترامي بحصولي على وسام الاستحقاق التكريمي إلى فخامة الرئيس محمود عبّاس "أبو مازن"، وإلى كلِّ أبناء شعبنا الفلسطيني.