في مدينتي يموت الرجل كسير القلب، يقضي الرجل حزين الفؤاد، أنظر من فوق السور، فأرى الأجداث الميتة طافية فوق النهر، وأرى أني سأغدو مثلها لاحقاً، فالإنسان، مهما علا، لن يبلغ السماء طولاً، ومهما اتسع لن يغطي الأرض عرضاً، ومادام الختم والأجر لم يأتيا بالمصير المحتوم بعد، سأدخل أرض الأحياء وأخلد لنفسي هناك ذكرى، في الأماكن التي رفعت فيها السماء سأرفع اسمي، وفي الأماكن التي لم ترفع فيها السماء سأرفع اسم الآلهة. (من لوح أرض الأحياء من ملحمة جلجامش)
خالد: جلجامش ملك لم يرث المُلك وكفر بدين آبائه، وتزوج من الأرض والسماء عشق الخمر والنساء لكنه لم يبنِ قصرا، أو يترك نسلا، فحسبناه أسطورة من أساطير العرب العتيقة. سكنت أوروكَ وحولتها لمنارة العلم والتجارة وفي عهدك أصبحت كبرى مدن العراق بل العالم أجمع. أبدأ حواري معك بسؤالي عن علاقتك بالآلهة وهل هي راضية عنك وهل أنت مؤمن أنها تحميك؟
جلجامش: أنا عربي أصيل وفي أصالتي تكمن علتي، أنا سليل الأنا، أصنع منها الداء والدواء، فهي تكبر داخلي وأكبر بها، تعلمت من الآلهة أن أكون إلهاَّ يُعبد وعبدا يسجد للآلهة الأقوى، فالآلهة ليست موحدة، ومصالحها متضاربة، ولا يمكن أن أعبدها كلها، فما يرضي أنانا قد يغضب عشتارَ وما هو عند آنو صواباً فهو عند إيانا جريمة، الآلهة هي جبروت القوى المستبدة وعطف من يملك على من يحتاج، هي مثل الدول الكبرى في عصركم.
خالد: تبدو أكثر إيماناً مما تصورت وكأنك نسيت أن الآلهة أرسلت عليك إنكيدو؟
جلجامش: لا يمكن أن أنسى إنكيدو وغضب إيانا التي حاولت جاهدة أن تمنعني من توسيع مملكتي الأرضية إذا لم تتمكن هي من توسيع نفوذها السماوي، لقد رفضت أن يكون لي جيشا قويا. في البداية أطعتها، فصنعت مدنية تعج بالصنائع والبساتين المروية من جداول حفرتها، حتى ما عاد مثل أوروك حاضرة بالعالم، ومهما قالوا عن عظيم التاريخ "صارغون" فإنه لم يبنِ مثل أوروك، ورغم ولائي المطلق لإيانا فهي سيدة أوروك المعبودة ومعابدها تملأ البلاد ويقدسها العباد، إلا أنني من عشاق المبادئ الصارغونية فنحن نملك مجالس منتخبة للكهول الحكماء وأخرى للفرسان الشباب ونؤمن أن أتباع الآلهة الأخرى لهم حق الحياة، فنحن عرب وعرقنا ممدود في السماء وقد قال صارغون: أنا صارغون الملك العظيم ملك أكاد، أمي كانت كاهنة معبد ولم أعرف لي أباً. لقد جاء إنكيدو وصنع معارضة وأراد أن ينزع الملك مني لأن كهنة المعابد قالوا: إن مشيئة إيانا أن تسجد أوروك لأنكيدو لا لجلجامش، رفضت وتمردت ثم لم أجد بداً أن أكيد مكيدة، وجعلت أنكيدو وزيري وأمرت الكهنة ليسجدو لنا معاً، إنكيدو لم يكن عنيداً لكنه كان طموحاً ويريد الملك حقاً، فعرضت عليه أن نغزو جبل الأرز وفعلناها وانتصرنا وكذلك في الفرات ودمشق خضعت لنا وصار لنا شرق يسجد، وغرب يركع. أصبح الأرضيون يخشون على قصورهم والسماويون على نفوذهم، وقالوا: إن جلجامش سيفعل مثل صارغون، سيوحد بلاد العرب من السند حتى السودان، ومن الترك حتى اليمن، وهي لا تتوحد إلا إذا كفر العرب بنفوذ الآلهة وحطوا الأسوار، وجعلوا كل الآلهة تخضع لقانون الأرض، قانون نحن نريد إذن سنفعل ما نريد. ولأن إنكيدو لم يقبل بدور المعارضة وآمن بالوحدة الوطنية قتلته الآلهة ,نعم تجمع أكثر من ثلاثين من الآلهة لقتله بعدما كبلوني بالوادي المقدس هديش، ولما فكت أسري عشتار وطلبت أن تنجب مني صارغونَ جديد رفضت وسجدت لإيانا.
خالد: نعم الجميع يعرف إخلاصك الشديد لإيانا وأن جلجامش الجبار لا يقوى أن يُغضب إيانا طويلاً لقد مرت فترات جفاء كثيرة بينكما إلا أنكما تبقيان أكثر من حلفاء فهي تحتاج قوة جلجامش تساعدها في مد نفوذها السماوي وجلجامش يعرف أن مملكة أوروك الأرضية لا تساوي إلا الغبار بدون حماية إيانا، إلا أننا نود أن نستوضح منكم، لماذا غضبت إيانا من تحالفكم مع أجا ملك كيش رغم أنه كان يحارب كل أتباع إيانا؟
جلجامش: أجا ملك كيش أكثر الملوك الذين أثّروا في طريقة تفكيري، فقد كنت أخشى دائما من التحالف مع أي مملكة أرضية لأنها كلها كانت تعمل على زعزعة استقرار مملكتي من الداخل، فمنهم من يدعم التمردات، ويصنع العملاء والخونة، وأكثر من هذا فتن الكهنة الذين يصعنون ديناً جديداً لكل من يغدق عليهم العطايا والقرابين، إنهم لا يصنعون معارضة مثل إنكيدو بل سعوا لتفتيت شعبي بين أفكارهم البركانية فكل ما يطمحون له أن تعمّ المجازر في أوروك وأن يذبح الأخ أخاه، أما إيانا فهي حليفة حقيقية لأوروك وكانت تسعى لتغيير الملك دون إراقة دماء ودون توهان شعبي بين أفكار القاتل والمقتول فأرسلت إنكيدو بديلاً لي، ولأن إنكيدو كان صادقاً في حب أوروك لم يمانع أن نصنع وحدة وطنية ترفض تشتت شعبها حتى لو غضبت إيانا حاميتنا وحليفتنا، فهي بالنهاية تريد أوروك قوية  أكثر من أن تكون مجرد مطيعة ضعيفة. لقد عرضت على إنكيدو فكرة غزو كيش وقتل أجا ملكها وعرضنا الأمر على مجالسنا المنتخبة فقرر الحكماء صك العهود وصيانة الحدود بينما كان قرار الفرسان الحرب والعدوان، وسجلها كاهن أوروك الأعظم كجزء من ملحمتي بعنوان بين جلجامش وأجا: (لا نستسلم إلى كيش ولنقهرها بالسلاح + أوروك صنعة يد الآلهة + ومعبدها إيانا هبة من السماء + صاغت أجزاءه يد الآلهة العظام + أسوارها السامقة تلمس أطراف الغمام + مرابعها آنو قد وضع لها الأساس + أنت الذي رعاها أيها الملك أيها البطل + أيها الغازي أنت كيف تخشى قدوم أجا + إن جيشه لقليل وصفوفه مترنحة + رجاله لا يقوون على رفع أبصارهم إلينا + أثلج صدر جلجامش ما سمعه من الفتيان وانتشت روحه + التفت إلى خادمه إنكيدو قائلاً: الآن دع عدة السلام تخلي مكانها لمعمعان القتال ولتأخذ عدة الحرب مكانها إلى جنبك ثانية.
خالد: إذن لم يكن صلحك مع أجا ملك كيش بدون إراقة دماء وكانت الحرب قبل السلم، إلا أنك بعدها بدأت بعقد التحالفات الأرضية مع ممالك الرافدين وكنعان، إلا أن بعض معاهدات السلام التي عقدتها كنت ضعيفاً بل أن الكثير من المحللين السياسيين يرون أنك أضعفت أوروك بالتحالفات التي دخلتها ضعيفا، وسؤالي هل أن تكون بدون حلفاء أسلم لك ولقوتك أم أن تكون ضمن إطار وحدوي تحالفي لا تملك مفاتيح القرار فيه لكنك تبقى جزءاً من كل؟
جلجامش: إن فكري سياسي توسعي يسعى لطموح إعادة الوحدة بين العرب مهما كان الثمن كنت أسعى أن أكون صارغوناً جديداً وأن يكون لي جيش جرار قادر على دحر كل الملوك وتكون كل القرابين لي ولإيانا وجربت هذا ولم أنجح ولا يمكن أن أقبل بالفشل، فغيّرت فلسفتي من أن أكون الصانع الأوحد للوحدة العربية إلى مجرد أحد أركانها الفاعلين، نعم فتحت الباب لكل الملوك وقبلت بشروطهم لنصنع وحدة بطعم قوس قزح فهي جامعة شاملة مرضية لملوك الأرض وحلفائنا في السماء. ولعلك تعلم أن بني إسرائيل اتبعوا فلسفتي في توسيع وجودهم في فلسطين فكانوا جبارين سفاحين مع الممالك الضعيفة وكانوا عبيدا وخدما في الممالك القوية. ففي أدوم وعراد وسيحون وباشان التي صدّ بني إسرائيل الغزاة عن تخومه، ربما لأنه شعر بهم شعباً لا ينام حتى يأكل فريسة ويشرب دم قتلى ويلحس الأرض كما يلحس الثور خضرة الحقل. ولم يسمح لهم بالاقتراب من تخومه أو المرور بأراضيه. فإن ممالك أخرى في أرض فلسطين قد سمحت لهم بالمرور في أراضيها وتسريح مواشيهم في مراعيها، أو أنهم تسللوا في غفلة عنهم ببطء شديد تجاوز المئتي عام. فقد كتب محررو التوراة: وأقام إسرائيل في شطيم وابتدأ الشعب يزني مع بنات مؤاب. فدعوْنَّ الشعب إلى ذبائح آلهتهنَّ فأكل الشعب وسجدوا لآلهتهنَّ وتعلق إسرائيل ببعل. فالحقيقة أن التحول الديني والولاء السياسي هما طبع من طبائع العرب، فهم يؤمنون بأن عرقهم العربي لابد أن يبقى من يحكم أرض العرب وينسل الأجيال فيها.
خالد: رغم كل ما فعلت فإنك قد فشلت ولم تصنع وحدة عربية بل أن أحلامك هذه ذابت من الغزوات الخارجية من الفرس تارة ومن الإغريق تارة أخرى، وللأسف أننا خسرنا حضارة أوروك بعد صعود بابل وصور وباقي المدن التي تحالفت مع العجم، هل تعترف أنك دمرّت أوروك وحلم الوحدة العربية ودخلت قبرك حيا؟
جلجامش: أنا ملك أوروك العظيم الذي شعر بالفقراء والمعذبين ورفض أن يدفع الفقير ثلث ماله قرابين لإيانا أو ضربية لي، أنا رفضت أن أصعد للسماء وأصبح جزءاً من الآلهة المعبودة، ولم أرفض أن تكبر المدن الأخرى ولم أغزُ بلداً عجمياً لأنني أؤمن أننا كعرب قادرون أن نكتفي ذاتيا ونعيش بدون تدخل القوى الخارجية أرضية أو سماوية نحن سلالة صارغون نصفه سماوي ونصفه الآخر أرضي، سل من سار خلف فارس والإغريق ماذا صنعت له فارس كم مدينة بنت؟ كم زرعت أو صنعت؟ إنهم مجرد عبيد تابعين لا يملكون إلا أن يقبلوا بأنهم أمة مهزومة لا تقوى على حكم نفسها بنفسها، لقد سحبونا إلى القبر جميعاً بعدما سحبوا الكرامة منّا وكبلونا بالخوف إنهم مجرد خونة خانوا أنفسهم، قد لا يعجبك حديثي وأنا مهزوم لذا قررت أن أدخل قبري حياً حتى لا أحيا بين الأموات.  


 بقلم: خالد غنام أبو عدنان