قبل ثمانية سنوات عجافٍ قد خلت كانت الدنيا أفضل وأجمل بكثير من هذه الأيام الصعبة بل والمأساوية التي يعيشها شعبنا الفلسطيني خاصةً في القطاع المُحاصر؛ من خلال الأعداء وحتي أولى القربي، والغلاء والأمراض والفقر، والبطالة المستشرية، والمنتشرة انتشار النار في الهشيم!! وكل ما سبق في كومة وقطع الكهرباء في كومة واحدة لوحدة؛ فلقد ارجعونا لعصور الجاهلية الأولي والظلام؛ وجعلوا في الصيف الحارق نهارنا ليلاً وليلُنا نهارًا؛ وكل هذه الكوارث جاءت بعد سيطرة حماس بالقوة العسكرية على قطاع غزة؛ وأصبح الملتزمون بالشرعية وبقرارات القيادة الفلسطينية يتقاضون رواتبهم وهم جالسون متقاعدون في بيوتهم؛ وأُحيل عدد كبير من كبار السن إلى التقاعد المُبكر؛  ويبلغ عدد الموظفين المتقاعدين المدنيين والعسكريين في غزة أكثر من مائة ألف ويزيدون؛ وبعد مرور ما يقارب تسع سنوات من الانقسام البغيض بين شطري الوطن؛ بدأ يشعر المتقاعدون طوعيًا والمتقاعدون بخاطرهم  والمتقاعدون جبريًا إن التقاعد بالنسبة لهم من قعود، ويستنتج الفرد من معناه رغبة إدارة العمل بقعوده عن أعماله اليومية، وإخراجه عن دائرة التأثير في مهنة لعيب أو قصور فيه يعتمد على عمره، بل يفهمه البعض على أنه قعوده عن ممارسة الحياة الاعتيادية كاملة، لأنه كبر في السن وبالتالي أصبح شخصاً غير منتج، وغير قادر على أداء وظيفته التي طالما مارسها واعتز بها طوال حياته بهمة ونشاط وبدأت وساوس الشيطان تدور في خلد المتقاعد سلبيًا ويري في نفسه عالة على المجتمع وكمًا مهملاً وصارت أحواله النفسية تسوء عند بعض المتقاعدين بل يدور في خلد بعض المتقاعدين  الخلوة والانطواء والانزواء عن البشر وبل أكثر من ذلك فأصبح مدى ابتعاده المتدرج عن المجتمع المحيط به، وميله للعزلة الناجمة من اعتقاده بعدم رغبة الآخرين بتواجده بينهم، لأنه أصبح شخصاً غير منتج، قاعد عن العمل، ظانًا أنهُ الأن هو عالة على غيره، والمجتمع وتحاصره الأمراض وشيخوخة القلب وليست العمر والأفكار الهدامة في رأسه وكل ذلك متزامنًا مع مشكلات وضغط الحياة النفسي الكبير والحروب التي لم تتوقع رحاها على القطاع المحاصر، ويصبح منتظراً الموت متوهمًا به في كل وقت وفي أية لحظة، مع أنه قد يكون قادراً على العمل ومقبلاً على الحياة بصحة وحيوية، إلا أن قرار التقاعد الذي جاء ليختطف منه حياته، قد يخلق عنده هذه الروح المعنوية المنخفضة التي تؤثر بدورها على أدائه الأسري والمجتمعي، وشعوره بأنه فقد نفوذه وهيبته بين أسرته ومجتمعه والأدهى من ذلك أن المتقاعد في كل دول العالم الغربي التي يسميها البعض منا دول كافرة يذهب البنك والمصرف والطبيب وسيارة الاسعاف والارشاد النفسي والاجتماعي؛ وتخفيض له في سعر بضائع الأغذية والطيران وكلها تحت أمره وتذهب إليه من خلال المندوبين إلى بيتهِ؛  ولكن ما حال المتقاعد عندنا كعرب! المتقاعد عندنا في بلادنا العربية له الخيار تذهب إلى المسجد أو المقبرة  ومتقاعد معناها مُت قاعد؛ وهذا حال شبابنا في قطاع غزة وخاصة ممن تركوا أعمالهم بعد الانقسام البغيض؛ وتقاعدهم يعني موتهم قاعدين قهرًا وكبدًا وهمًا وغمًا وبالجلطات الدماغية والقلبية؛ ولازلت أذكر أستاذي ومشرفي على رسالة الدكتوراه الأستاذ الدكتور على مذكور عميد كلية التربية السابق بجامعة القاهرة وكنت جالس معه في مكتبه بجامعة القاهرة بمصر وقد بلغ الدكتور على من العمر عتيًا وتجاوز ال ثمانون عامًا قال لي:"  لا تقاعد للمعلم ولا تقاعد للأستاذ الجامعي، ولا للتقاعد مبكرًا كان أو متأخرًا؛ وأردف قائلاً:" كيف ينادي البعض بالتقاعد لمن هم الأن أصبحوا بعد سنوات كثيرة خلت خُبراء ومبدعين ومبتكرين في مجالهم؛ فهؤلاء يجب أن يكونوا مستشارين وفي أعلي الأماكن والدرجات، وأن نُجلهم ونقدرهم ونُنُزِلهّم منازلهم؛ ويكونوا خُبراء ومستشارين للجيل القادم ولمن سيحملون الراية؛ وقال لا تقاعد إلا في حالة واحدة هي الممات؛ وها هم المتقاعدون بلا ذنب لهم في قطاع غزة يذوبون كالشمعة يومًا بعد يوم بسبب استمرار شبح الانقسام فهل تنتهي هذه المأساة التي دمرت النسيج الاجتماعي وأفسدت البلاد وعقدّت العباد، ولم يرحمهم أحد وكأن لسان حال الانقسام البغيض يقول له يا متقاعد- موت وأنت قاعد. قهرًا ، وهمًا وغمًا وظلمًا ومرضًا. فهل وصلت الرسالة.