لا أحد يختلف على أنَّ حركة حماس قبل انتخابات 2006 شيء ، وبعد فوزها بالانتخابات التشريعية شيءٌ آخر . كما أنه لا خلاف على أنَّ حركة حماس في ظلِّ قيادة الشيخ أحمد ياسين شيخ الشهداء شيء ، وبعد استشهاده شيءٌ آخر. قبل الانتخابات التشريعية التي أقرَّتها السلطة الوطنية الفلسطينية كانت حماس تتقدَّم المعارضةَ الفلسطينية لاتفاقات أوسلو، وكانت تمتلك القدرة العسكرية والميدانية لتعطيل هذه الاتفاقات ومكوِّناتها سواء أكان ذلك من خلال العمليات العسكرية-خاصة في الاراضي المحتلة في العام 1948 والتي سُـمِّيت غالباً بالعمليات الاستشهادية، أم من خلال الهجوم الاعلامي المركز على قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وبالتالي قيادة السلطة الوطنية، والقائم على ركائز أساسية أهمها: التخوين، والتجريح، والتشكيك الوطني، وتحريض الجماهير على المنظمة بحجة أنها تريد التفريط في الارض، وفي القضايا الجوهرية .

هذه القدرة الاعلامية لدى قيادة حماس والتلاعب بالألفاظ والمصطلحات المدعومة من فضائيات إعلامية صديقة لها تمكنت من التأثير على الرأي العام الفلسطيني، خاصة أنَّ هذه الطروحات السياسية التحريضية كانت محاطة بهالة من قدسية الشريعة الاسلامية، والتمسك بما قال الله، وبما قال رسوله صلى الله عليه وسلم.

هذه الطروحات، وهذه المواقف السياسية سرعان ما انهارت بعد غياب الشهيد أحمد ياسين الذي كان -رحمه الله- يتقن فنَّ لعب دور المعارضة بالاتفاق مع الشهيد الرمز ياسر عرفات بما يخدم القضية الفلسطينية والمصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني. هذه الهالة، وهذه القدسية بدأت تنهار لمجرد أنَّ حركة حماس وافقت على المشاركة في الانتخابات وخاضتها علناً، وجاءت بفتاوى جديدة تبريرية لقضية المشاركة في الانتخابات، علماً أن حركة حماس رفضت المشاركة في العام 1996 تحت باب أنها مُـحرَّمة، لأنها تجري تحت سقف أوسلو"الخياني والتفريطي) كما قالوا . هذا التباين بالفتاوى في نفس القضية وضع حركة حماس في قفص الاتهام أمام أعضائها، وأنصارها، وجمهورها الذي تأثر الى حدٍ بعيد بهذه التحولات الدراماتيكية في مجال التحريم والتحليل، وحتى الفصائل الحليفة لحركة حماس عارضت اختيار حماس لهذه الخطوة الانتخابية التي أدخلتها شاءت أو أبت في قفص أوسلو بخيارها.

وبعد نجاحها في الانتخابات إتضح للجميع أن الهدف الأساسي من هذه النقلة النوعية هو الوصول الى السلطة الوطنية، والسيطرة على مؤسساتها التشريعية، والتنفيذية، والرئاسية وبالتالي إقامة الامارة الاسلامية في قطاع غزة، هذه الامارة التي مهَّد شارون الطريق لها بإخراج كافة المستوطنين من قطاع غزة، ونقلهم الى مستوطنات اخرى في الضفة الغربية .

ولم تستطع حركة حماس تسخير نجاحها في خدمة المشروع الوطني الفلسطيني وتعزيز الوحدة الوطنية، وانما ذهبت بالاتجاه المعاكس للهيمنة والسيطرة بأسرع الوسائل، وأقصر الطرق، وانعكست التأثيرات والطموحات الدولية والاقليمية على الواقع الفلسطيني لتصبَّ البنزين على نار الخلافات والتباينات، وهذا ما شجَّع قيادة حركة حماس الجديدة على أخذ القرار بتنفيذ الانقلاب الدموي على السلطة الشرعية في قطاع غزة، وكانت هذه العملية الانقلابية باستخدامها العنف والقمع، وإلغاء الآخرين، ورفض الشراكة السياسية، ومحاربة الحرية والديموقراطية هي المقدِّمة الطبيعية لتكريس الانقسام الحاد في الجسم الفلسطيني أرضاً وشعباً

هنا بدأت أزمة حركة حماس تتفاقم، وكانت كمن يلفُّ الحبل على عنقه، ووضعت نفسها أمام خيارات صعبة، واضطرت للدفاع عن نفسها بأساليب ومفاهيم واهية، وأحياناً غامضة أو مربكة وقد برز ذلك من خلال :

أولاً: الرغبة الجامحة قي الحصول على اعتراف دولي وعربي بها كسلطة ثانية، أو كسلطة بديلة، واجرت من أجل ذلك اتصالاتٍ عديدةً مع جهات أميركية وأوروبية، وقدَّمت من أجل ذلك تنازلاتٍ لم تعد خافية على أحد أبرزها القبول، بإقامة دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي المحتلة في العام 1967، وهذا كَسَرَ القاعدة الذهبية التي بنت عليها سياساتها السابقة وهي تحرير فلسطين من النهر الى البحر. علما أن حتى الآن جميع الدول تعترف وتتعاطى مع السلطة الوطنية ومع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وليس مع حركة حماس. كذلك فإنَّ وثيقة الدكتور أحمد يوسف مستشار اسماعيل هنية واضحة في تقديم التنازلات.

ثانياً: فقدت حركةُ حماس شعبيتها الفلسطينية بعد أن شاهد المواطن الفلسطيني الذي انتخبَ بالأمس حركةَ حماس كيف تغيَّرت هذه الحركة، وبدأت بعد استلامها السلطة تمارس القمع، والقتل، وكمَّ الأفواه، والاعتقالات، والبعد عن العدالة، وتكليف مجموعات القوة التنفيذية بممارسة الدور المرفوض والذي لا يليق بمعتقدات حركة حماس التي زرعها الشهيد الشيخ أحمد ياسين. ولذلك حماس اليوم تهرب من استحقاق الانتخابات، وتعمل على تعطيله حتى لا تخسر كلَّ شيء

.

ثالثاً: عندما أعطت حركة حماس الأولوية للخيار السياسي، والبحث عن السلطة السياسية ضيَّعت بوصلة الشريعة لأنها أصبحت مضطرةً للحصول على المكاسب السياسية، وهذا ما أدخل قيادة حركة حماس في خلافات داخلية حادة لم تعد خافية على أحد سواء أكانت الخلافات بين الأجنحة السياسية نفسها أم بين الاجنحة السياسية والعسكرية، وخاصة في قطاع غزة .

رابعاً: هذا الاضطراب في مواقف حركة حماس السياسية والشرعية جعل الفئات الاسلامية الاخرى المتواجدة في قطاع غزة تجد مدخلاً للصراع مع حركة حماس على خلفية دينية، وهي أنَّ حركة حماس تخلت عن تطبيق الشريعة كما يقولون .

وبذلك دخلت حركة حماس مجبرةً في اختبار قوة ميداني ضد الحركات السلفية، وخاصة ما حصل مع أتباع فضيلة الشيخ الشهيد عبداللطيف موسى الذي تعرَّض هو ومن أمَّ من المصلين في المسجد في رفح الى قصف تدميري أودى بحياة ستة وعشرين شهيداً وما يزيد على مئة جريح، ومن بين الشهداء كان الشيخ عبداللطيف موسى نفسه . والآن يتجدد الصراع، وحركة حماس لا تجد خياراً آخر إلاّ العنف والقتل والاعتقال كوسيلة للتفاهم مع كل من يعارضها.

خامساً: إنَّ حركة فتح قدًّمت ما هو مطلوبٌ منها على طريق المصالحة، وفتح طريق العودة عن الانقلاب الذي حصل في العام 2007 لانها تؤمن بأنَّ حركة حماس قوة أساسية من القوى الفلسطينية، وهي كما قال الرئيس ابو مازن جزء لا يتجزأ من النسيج الوطني الفلسطيني.

ولذلك كانت تعليمات الرئيس ابو مازن لكوادر حركة فتح في قطاع غزة دائماً وحتى الآن عدم الدخول في لعبة الدم، وعدم القيام بأي عمل عسكري في القطاع كردة فعل على الاعتقالات وعلى إطلاق النار، والاغتيالات التي تمت سابقاً، وحركة فتح ليس لديها مشروع فتنة داخلية لا في الماضي، ولا في الحاضر، ولا مستقبلاً، لأنَّ الحرب الأهلية هي مطلب اسرائيلي، والمنتصر فيها مهزوم. كما أن قيادة حركة فتح وقـَّعت على كافة الوثائق المطلوبة للمصالحة، وفتح الطريق أمام قيادة حركة حماس سواء أكان ذلك في مصر أم في دمشق، أم المبادرة الوطنية التي طرحها الرئيس أبو مازن ونالت تأييد مختلف الأطراف الدولية والعربية والفلسطينية.

نحن ندرك تماماً بأنَّ الخروج من مستنقع الانقسام هو مطلب فلسطيني وعربي ودولي شامل باستثناء الكيان الاسرائيلي والولايات المتحدة، ومفتاح الخروج من هذا المأزق هو بيد حركة حماس، وكل التبريرات المطروحة لابقاء الحال على ما هو عليه لم تعد مقبولة، فالجسد الفلسطيني واحد، وعندما تشتعل النار في طرف منه لن تَسْلَمَ الاطرافُ الاخرى .

نحن في حركة فتح لا نعتقد أنَّ الانقسام يخدم حركة حماس كحركة فلسطينية معنية بالوضع الفلسطيني، وبالوحدة الوطنية الفلسطينية، ومعنية بمقاومة الاحتلال، وحريصة على مواجهة الاستحقاقات القادمة يداً واحداً، ومؤمنه بأنـَّه لا بد من تحصين الساحة الفلسطينية حتى يكون بإمكانها التعاطي مع المتغيرات الحاصلة في المنطقة. ونرى ضرورة أن تبادر قيادة حركة حماس الى أخذ قرارها الجريء بطيِّ صفحة الماضي، والعودة عن الانقلاب، وتحطيم فكرة الانقسام من أجل تقديم حركة حماس بوجه جديد، وبرنامج متصالِح مع الجميع، حتى يكون بالامكان حلُّ الأزمة الفلسطينية برمتها، وتحقيق الحلم الفلسطيني بتوحيد الصف أولاً، وإزالة حالات الاحتقان ثانياً، وإذابة أكوام الاحقاد والضغائن ثالثاً.

على حركة حماس أن تبادر قبل فوات الأوان ، والكرة الآن في ملعبها، وحركة فتح لن تكون إلا الى جانبها، لأنَّ الطائر لا يطير الا بجناحين، الوقت لم يعد لصالحنا جميعاً لأنَّ الاحتلال لن يرحم، والأجيال أيضاً لن ترحم، والتاريخ لن يرحم، والقضية الفلسطينية في خطر ليس بسبب الاستيطان والتهويد فقط وانما بسبب الانقسام المدمِّر.

والنصيحة لنا جميعاً أن نستمع الى الأجيال الشابة وإلى الحراك الشبابي الذي نزل الى الشارع مناشداً، ومطالباً، وصارخاً بوجه الجميع من قلبٍ مجروح، وجرح مفتوح أنَّه لا للانقسام، نعم للوحدة الوطنية، استمعوا جيداً الى هذا الجيل المنتفض من أجل فلسطين، لا تقمعوه، مرتين مرة من الاحتلال ومرة من الانقسام. هذا الجيل الشاب يكتنز الطاقات العملية، والقدرات الفكرية، والتطلعات الوطنية، والقناعات السياسية فاسمحوا لهذه الطاقات أن تأخذ دورها، ولا تخافوا من حراكهم لأنَّهم يعلمون أنَّ عدوَّهم الأول هو الاحتلال.. لكن حذارِ حذارِ من قمعهم حتى لا تنفجر طاقاتهم الكامنة بوجوهنا جميعاً، لانَّ فلسطن بنظرهم أكبر وأعظم، وأجل من الفصائل ، فالفصائل تكبر أو تصغر، تشرِّق وتغرِّب، تبحث عن مصالحها، أما فلسطين فهي أرض القداسة والرباط.

انَّ الفصيل الذي يقمع شبابه، ويسد الابواب امام حراكه، ويتعمد زرع الحقد والضغينة بدلاً من المحبة والتسامح في عقول وقلوب هؤلاء الابرياء، من اجل ان يكون الالتزام الاعمى بالفصيل لا بالوطن، ومن اجل ان ينفذ ولا يعترض، ومن اجل ان يقول ما يقال له لا اكثر ولا اقل، وبالتالي فالمطلوب ان يتحول الشباب المبدع والمعطاء جزءاً من آلة لا تعطي وزناً لما يختزنه هؤلاء الشباب من قدرة على الابداع، والعطاء، والتفكير بالتغيير، ومن اجل ان يهتف دائماً عاش الفصيل، الفصيل اولاً وفلسطين لاحقاً. ولا نتجنى اذا قلنا ان هذه العقلية الخائفة من ابداع وثورة شبابها هي التي اوصلتنا، واوصلت قضيتنا الى ازمة خانقة بل قاتلة. فمتى سنمنح الحرية لأتباعنا واجيالنا الصاعدة قبل ان ينتزعوها رغماً عنا، وعندها لن ينفع الندم ولنأخذ العبرة مما يجري في الساحة العربية.