مجلة القدس/ رام الله- امل خليفة

على الرغم من مرور 66 عامًا على النكبة، لم ينَلْ شيئاً من ذاكرة الحاج شاهر إسماعيل الخطيب ابن بلدة البرج، الذي عايش النكبة بمرارتها. فلكأنّه في حديثه يرى شريطًا من الصُوَر يمر أمامه، لا تقطعه إلا غُصّة أو ذكرى جرح غير داملٍ هنا أو هناك، ليعودَ فيرسُمَ بسمةً على وجهه، ويؤكّدَ أن مفتاح داره سيكون جواز سفره الذي سيعود من خلاله إلى بلدته كجميع المتمسّكين بحقهم بالعودة.

 

تهجير لا هجرة

يستهَّل الحاج شاهر الخطيب حديثه مستذكرًا قريته، قرية البرج، الواقعة على خط الهدنة مُباشرة بالقرب من حاجز مودعين. ولا يسعُك إلا أن تلحَظ تلك الشرارة المتقدة التي تلوح في عينيه كلما أتى على ذكرها.

ويروي الحاج شاهر عن قريته الكثير، فيقول: "بلدنا، بلدة البرج المنكوبة سنة الـ1948، كانت بلد أثرية، بدليل انو كل البلدات والقرى اللي حدها صار فيها بناء إلا بلدنا، انمنع ينحط فيها حجر واحد لأنها أثرية واستلمتها دائرة الآثار للتنقيب عن الآثار فيها".

أمَّا عن رحلة التهجير فيقول: "بلدنا كباقي البلدان تهجَّر أهلها وما هاجروا لأن الهجرة فعل إرادي أما نحن فانفرضت علينا الهجرة القسرية، وبدأ مشوار تهجيرنا من فلسطين قبل عام 1948".

ويضيف "قبل العام 1948 كانت الدولة العثمانية تحكمنا، وكانت هجرة اليهود إلى فلسطين قليلة. وفي العام 1924، انتُدِبت بريطانيا على فلسطين، وجلبت معها اليهود اللي صاروا يدخلوا أفواجًا أفواجًا ليستقروا، وهنا بدأ الصراع بين بريطانيا والشعب الفلسطيني بعد التقسيم، وبدأت رحلة المعاناة".

 

التهجير من البرج

عن خروجه من بلدته يقول الحاج شاهر الخطيب: "طلعت من البرج كان عمري 9 سنوات. اذكر مشيت من البرج إلى أول بلد سكناها مشياً على الأقدام كباقي الناس اللي مشوا حفاة عراة، وهذا بعد الإشاعات التي أطلقها اليهود عن أنهم رح يذبحوا كل من  بيمسكوه، فطلعوا الناس من اللد والرملة ومن الساحل، خوفًا من الذبح. ولكن الذبح وقع حقًا، إذ حصلت 17 مجزرة في فلسطين أكبرها مجزرة اللد، والثانية دير ياسين، وفيها مارس اليهود أفظع ممارساتهم من نهب وسلب واغتصاب وذبح، وكانت النساء تهرول وهن يحملن أبناءهن على أذرعهن ويستغثن للحصول على شربة ماء".

ويتابع "أذكر اننا طلعنا وقت موسم حصاد القمح، وكانت وقتها غلال الأرض كثيرة، ولأن الناس ظنوا أن الترحيل مش حيطوّل أكتر من  أسبوع إلى عشرة أيام، خبوا القمح في دارهم أحسن ما حدا ياخذهم، ونحن بدورنا خبأنا قمحنا في دارنا، ولكن المسافة طالت على الرجوع. كان أول بيت سكناه في عين عريك، ثم ارتحلنا إلى بيت نوبا ثم إلى صفا، وبعدها إلى بيت عور، وكُنا نمضي في كل بلدة ما بين 3 إلى 6 أشهر، إلى أن استقرينا في خربثا بني حارث، واستأجرنا بيتًا كُنا ندفع إيجاره 10 قروش أردنية، وأحيانًا كُنا ندفع الإيجار من المؤن عندما لم نكن نملك المال، كالأرز والسمن والسكر وغيره، وقد عانينا معاناة لا يعرفها إلا الله. وبعد أن كان الصليب الأحمر هو المسؤول عنا وعن القضية الفلسطينية، اتُخِذ قرار بموجبه أصبحت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" هي المسؤولة عنا، ومنذُ استلامها المهمة عملت على تهدئتنا وإفهامنا بأن العودة باتت أمرًا مستحيلاً، ثمَّ شرعت بنصب الخيم لنا، وبناء المدارس والأندية، وفتح العيادات والمستشفيات، وتوظيف اللاجئين، ومنحت كل عائلة فلسطينية بطاقة تسمح لحاملها بالحصول على المؤن والعلاج، لكن كل هذا كان يسري ضمن خطة هادفة لتقزيم القضية الفلسطينية، واستمرت الحال على هذا لسنوات".

 

ضروب العنصرية والمعاناة

ويشير الحاج الخطيب إلى أنه وبعد مرور 10 سنوات، بدأ اليأس يدب في النفوس، وأخذ الأمل بالعودة يخبو، فشرع الشباب بالهجرة إلى دول الخليج العربي وأمريكا الشمالية والجنوبية، فيما استحصل من تبقى منهم على وظائف، واستأنفت الحياة دورتها، ومَنْ عادَ من المهاجرين افتتح بالأموال التي عاد بها عددًا من المشاريع التي بدأت بسيطة كالمعامل والكسارات والحوانيت، ويستدرك "ولكنهم لم ينسوا يومًا بلداتهم وأهلهم بل كانوا يذكرونها في كل مناسبة تجمعهم، ويحدوهم الأمل بالعودة تمامًا مثلنا اليوم. بس اليهود ما كانوا يفَوْتُوا فرصة إلا ويذوّقونا فيها شتى أنواع التعذيب من قتل وتشريد وسجن تمامًا مثل اللي بيحصل اليوم، وكانوا يسجنوا كل من بيحاول يتسلل إلى بلدته لجلب الحبوب التي تركها في داره، وأذكر أن والدي وأعمامي وأخوالي كانوا يتسللون ليجلبوا الحبوب لإطعامنا، ولكن مع انتهاء الموسم لم يعد هناك طعام في البلد".

ويكمل "تواصلت جرائم اليهود، فكانوا يسِجْنوا ويطُخوا كل من بمسكوه على الحدود، وكل هذه الجرائم كانت تُرتكب تحت إمرة شارون، وأبرزها مذبحة قبية، وكانوا آنذاك يُطلقون على "الفدائيين"- الذين كانوا يتسللوا إلى أماكن حراسة اليهود ومواقعهم ويطخوهم - تسمية إرهابيين ومخربين، فانتقموا من قبية، وكان عمري وقتها 15 عامًا، وبعدها صورة القتلى الـ60 اللي طلعوهم من تحت الردم محفورة في ذاكرتي".

 

حق العودة متجذِّر في النفوس

لا يفوت الحاج شاهر فرصة إلا ويؤكّد فيها تمسُّكه بحق العودة، على الرغم من ضروب المعاناة التي قاساها وعائلته. وبرأيه فإن 66 عامًا ومثلها 100 مرة لم ولن تكون كفيلة بثني الفلسطينيين عن التمسُّك بحقهم، حيثُ يقول: "بعد 66 سنة منأكّد انو زي ما المصحف مقدس فحق العودة حق مقدس مفيش فيو مساس، ولازم نعود بيوم من الأيام، وأملنا كبير لأنو اللي بيقارع الصهيوني اليوم مش يلي بِسنّي، يلي بقارعوا هوي الشباب، بدليل أن 60 إلى 70% من الأسرى هم من أبناء المهجرين وعمرهم تحت الـ30 سنة، يعني هذول ما وِلدوا بالبلد، بس كل واحد فيهم تعلَّم الدرس من أبوه وأجداده اللي سبقوه، تعلَّم انو الوطن خط أحمر، لا بينباع ولا بينشرى"، ثمَّ يضيف ببارقة أمل لا تفارق عينيه "طالما في شعب، وفي حركة وإقدام على الصراع وفي مناوشات وحروب طاحنة وكل شي، الوطن ما ينتسى، وهذا المفتاح هو جواز سفري. عندي 38 حفيداً لما بيسألوهم عن بلدهم ومين طلَّعك منها حافظين الدرس عن غيب، لأن هذا درس مع الحليب رضعوه، فكيف ينسونه؟!"، ويختم بالقول: "بناشِد  جميع أصحاب الضمائر الحية بالوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني حتى يأخذ حقو ويعود إلى أرضو".