جميل ضبابات

إذا تمكن هايل بشارات من زراعة أرضه بالقمح، فإنها لن تكون هذه آخر مرحلة يرتاح بعدها من القيام بمهام يومية شاقة، أضافت الريح الشرقية الباردة عناء آخر إليها.

من حين لآخر، هناك طائرة مسيرة صغيرة جدا، تغير من أعلى الجبال الشرقية على المنطقة التي يسكن فيها هؤلاء الفلاحون، وترصد عودتهم إلى منازلهم، تصور ما جرى في لحظته، قبل أن يداهم جيش الاحتلال الإسرائيلي منزله، ويستولي على جرارات زراعية كانت تحرث أرضه.

ماداً يده على استقامتها نحو سهول غير مستوية، قال بشارات : من هناك تأتي الطائرة، وهو بذلك يشير إلى معسكر لجيش الاحتلال على بعد كيلومترات قليلة عن مكان سكنه.

ويؤرخ الفلاحون الفلسطينيون للسنة الجديدة ببداية موسم الزراعة الحقلية قبل دخول العام الميلادي بأسابيع، ويقولون إن هذه السنة ما زالوا غير قادرين على استكمال زراعة أرضهم، بسبب المنع الإسرائيلي. والسنة الزراعية في الروزنامة الزراعية تبدأ بالزراعة، وتنتهي بالحصاد، وغالبا لا تتعدى سبعة أشهر.

في الأيام الماضية حدث أن أوقف جيش الاحتلال عددا من الفلاحين أثناء زراعتهم لمحاصيل القمح، وذاته بشارات تعرض هو وابنه للإيقاف نهارا كاملا، ما اضطرهم أحيانا للعمل ليلا.

وقال بشارات، الذي أراد لفت الأنظار، إن هذه هي الخطوة الأولى التي اعتاد الإسرائيليون القيام بها قبل السيطرة على الأرض نهائيا، يمنعوننا من الزراعة أول سنة، وفي السنة التالية يسيطرون على الأرض.

يقول مسؤولون رسميون فلسطينيون "إن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تريد تفريغ مواطني الغور من قراهم ومزارعهم، كي توسع مستوطناتها".

وعندما يتعلق الأمر بالأمل، فإن بشارات وغيره من المزارعين يفقدون رغبتهم بالكلام عن مستقبل مستقر.

فعلى مدار السنة الماضية، سيطرت المستوطنات على مناطق واسعة من الأراضي الزراعية. وعلى بعد كيلومترات من مكان سكن بشارات، أُجبر مزارعون فلسطينيون على ترك أراضيهم تحت التهديد من قبل جيش الاحتلال والمستوطنين، الذين سارعوا لإقامة منشآت جديدة، كما حدث في منطقة الفارسية.

وتشكل الزراعة الحقلية قبيل دخول الشتاء علامة مميزة في حياة الفلاحين، إلا أن مهاجمة جيش الاحتلال مستعينا بالطائرات المسيرة هذا العام للحقول أثناء الحراثة عطل زراعة مساحات من تلك الأرض.

وقال محمود وهو ابن هايل ويسكن معه "أخشى من الاستيلاء على الجرار الأخير"، ويشير إلى جرار زراعي متوقف أمام منزله المقام على تلة تشرف على أراضٍ زراعية خضراء.

وأخبر عبد الله لحلوح وهو وكيل وزارة الزراعة  أن وزارة الزراعة وزعت أطنانا من الحبوب على المزارعين لزراعتها في تلك الأراضي، لكنه أكد أن "هناك تصاعدا ملحوظا في ملاحقة المزارعين في الأغوار، وجنوب الخليل".

في الأغوار وهي شريط أرضي تقع دون مستوى سطح البحر، وتشهد هطولا محدودا للأمطار شتاء، وصيفا حارا جافا، يفضل المزارعون زراعة المحاصيل الحقلية التي لا تحتاج للري المنتظم، وغالبا ما تكون تلك الأرض قريبة من حدود المستوطنات، وفي المناطق الوعرة.

وحسب احصاءات وزارة الزراعة، فإن هناك نحو 293 ألف دونم تزرع سنويا بالمحاصيل الحقلية في الضفة الغربية، منها 126 ألف دونم، وتتذبذب المساحة اعتمادا على الدورة الزراعية، والظروف المناخية، ورغبات ذاتية عند المزارعين، إلا أن هذا العام وبشكل لافت توسع عمليات منع الزراعة لأسباب تسميها سلطات الاحتلال "عسكرية".

لكن هايل بشارات لا يؤمن بمنطق زراعي إلا بزراعة الحبوب كل عام، دون النظر إلى الظروف الطبيعية. وبينما يتقدم نحو تلال صغيرة تهب عليها رياح شرقية باردة، قال إنه خائف من اللحظة التي يفقد فيها المهدد بالهدم والتدمير.

على المستويات كافة في هذه المنطقة التي لا يخلو يوم من إصدار إخطارات عسكرية إسرائيلية لهدم منازل المواطنين الفلسطينيين فيها، هناك تشاؤم عميق من المستقبل، ويظهر ذلك من حالة الحنق التي تبدو على بشارات، وغيره من المزارعين.

يقول معتز بشارات وهو مسؤول ملف الاستيطان في محافظة طوباس، ان جيش الاحتلال يمنع الزراعة في نحو 186 ألف دونم في منطقة الأغوار.

وحسب بشارات، شهد العام المنصرم 79 حالة استيلاء على الجرارات الزراعية، وصهاريج المياه، والمركبات الخاصة للمزارعين في هذه المناطق.

ويقول مزارعون آخرون: إن الاحتلال يستولي على جراراتهم، للضغط عليهم، ولمنح المستوطنين مزيدا من الأراضي لزراعتها. فعلى أرض الواقع تظهر عمليات بناء جديدة في مواقع كثيرة في المنطقة لبؤر مستوطنات، وهي أنوية استيطانية جديدة، سرعان ما تكبر، وتصبح بؤر استيطانية تقضي على أحلام الفلسطينيين في البقاء طويلا في مناطق سكانهم.

ذاته سكن هايل وأبوه وجده منذ عقود طويلة في هذه المنطقة، لكن أمله في البقاء دون مهاجمة جيش الاحتلال آخذ بالتلاشي، وإضافة إلى ذلك أصبحت خطواته في ساحة منزله وأرضه مراقبة بشكل حثيث بطائرات مسيرة، وحتى عندما منع من حراثة أرضه بالنهار، ولجأ إلى الليل دامس الظلام كانت عملية الزراعة محفوفة بالمخاطر الكثيرة.

وقال محمود ابن هايل: "مرات عديدة استدعوني (الإسرائيليون) للمحكمة العسكرية، لأني اسكن هنا