نجحت الجبهة الشعبية أخيرًا في الإعلان عن انتهاء أعمال مؤتمرها الثامن، الذي مضى تقريبًا ثلاثة أعوام على البدء بالإعداد والتحضير له، وعقد مؤتمرات الأقاليم الثلاثة (الضفة والقطاع والشتات) بعد تجاوز بعض العقبات، وتأكيدًا لذلك أصدرت بياناً رسمياً أمس الأول، أعلنت فيه عن إنجاز الاستحقاق التنظيمي الأهم، أي المؤتمر العام، بالتلازم مع انتخاب الهيئات القيادية اللجنة المركزية والمكتب السياسي والتجديد للأمين العام، الأسير البطل أحمد سعدات، وانتخاب نائب جديد له، هو الرفيق جميل مزهر من محافظات قطاع غزة، وتم تجديد الهيئات القيادية بنسبة تصل لأكثر من 50%، خاصة الهيئة القيادية الأولى، والسبب الأساس يعود لتطبيق المؤتمر للوائح النظام الداخلي، التي تنص إحداها على "أن عضوية المكتب السياسي واللجنة المركزية لا تزيد عن دورتين"، وهي بالمناسبة من المواد الحديثة نسبيًا في النظام. وبالتالي جاء التجديد فيها بنسبة كبيرة، وتدفق الدم الجديد بقوة في مركباتها.

 وهذا الأمر حمال أوجه، بمعنى بمقدار ما يحمل البعد الإيجابي، بمقدار ما له انعكاسات سلبية على عمل تلك الهيئات لعدة أسباب، أولاً لنقص الخبرة القيادية عند العديد من الكوادر المنتخبة؛ ثانيًا غياب الكاريزما القيادية، ولهذا تأثير سلبي كبير على العلاقة البينية بين القاعدة والكادر والهيئة القيادية الأولى؛ ثالثاً ترك فراغ قيادي في بعض الأقاليم، خاصة إقليم الخارج، الذي يفتقد الآن لشخصية اعتبارية ذات رصيد تاريخي وسياسي ومعنوي؛ رابعًا خلق فجوة بين الجبهة وفصائل العمل الوطني والقومي والأممي، وبالتالي إضعاف موضوعي لمكانة الشعبية. وفي ذات الوقت له بعد إيجابي تمثل في أولاً غياب سياسة التفرد في القرار؛ ثانيًا الحؤول دون تكلس الهيئات القيادية الأولى، والخروج من دوامة الجمود العقائدي والسياسي؛ ثالثًا إحداث حيوية داخل الهيئات القيادية؛ رابعا الإسهام بإنضاج تجربة الكوادر القيادية الصاعدة في إدارة المهام القيادية؛ خامسًا تعزيز المنافسة الإيجابية بين النخب الكادرية في الأقاليم الثلاثة، وأثرها على تطوير الملكات الكادرية الفكرية والسياسية والتنظيمية والنقابية والكفاحية والمالية والإدارية...إلخ.

وعطفًا على ما تقدم، يمكن لقيادة الجبهة الجديدة تجسير المسافة بين السلبيات والإيجابيات من خلال زج القيادات الجديدة في الانخراط المباشر في دورة العمل لتأكيد ذاتها ومكانتها على الصعد المختلفة. بيد أن هناك حاجة ماسة لوجود نائب أمين عام آخر في الخارج أسوة بتجربة الرفاق في الجبهة الديمقراطية، ليتمكن من متابعة جوانب العمل الداخلي والسياسي مع القوى الفلسطينية والعربية والأممية. وكما فهمت من أحد الأصدقاء، أنه تم تقديم اقتراح بهذا الصدد، أي أن الموضوع مثار بالأساس في أوساط الهيئات القيادية، الأمر الذي يتطلب من اللجنة المركزية العامة للشعبية في حال اقتنعت الأغلبية بالفكرة، وتبنتها الأخذ بها، وتكريسها عمليا.

وعلى أهمية الجانب التنظيمي للشعبية، ورغم أنها صادقت على وثائقها الفكرية والسياسية في المؤتمر، مع ذلك تستدعي الضرورة من أعضاء الهيئات القيادية اليومية والوسيطة الانتباه لأخطار السياسات الأقصوية على الصعيد الوطني والقومي والأممي، والابتعاد كليًا عن الخطاب الشعاراتي، والتعامل بحكمة مع المعطيات السياسية الداخلية والعربية والإقليمية والدولية؛ وأيضًا مطلوب منها تحديد التخوم بينها وبين القوى والحركات الإسلاموية بشكل جلي وعميق، وعليها التمييز بين البعدين التكتيكي والاستراتيجي في التحالفات، والتدقيق في خلفيات تلك القوى، وحتى على مستوى التحالفات الإقليمية مع القوى الإسلامية المتطرفة، أو من يطلقون على أنفسهم "محور المقاومة"، الذي ليس له من المقاومة إلا الشعار والعنوان، والانشداد أولاً وثانيًا وعاشرًا وألفًا للتحالفات الوطنية وتعزيز وتكريس وحماية منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد، ومعالجة القضايا الخلافية مع حركة فتح وفصائل منظمة التحرير على أرضية مبدأ " وحدة – نقد – وحدة"، والعمل على تحصين جبهة قوى اليسار، الذي على ما يبدو أن ملامحه غابت عن هوية وملامح الجبهة، بعد أن انخرطت في تأسيس ما يسمى "الجبهة أو الائتلاف الوطني المقاوم" مع حركتي حماس والجهاد الإسلامي. وتجاهلت الجبهة القراءة المعمقة لخلفيات تلك القوى، أو على الأقل حركة الإخوان المسلمين عمومًا وفي فلسطين خصوصًا، ولم تميز بين الكوادر والقواعد المناضلة في حركة حماس المضللة، والتي لا تعرف حقيقة أجنداتها، وبين النخبة القيادية الأولى المرتبطة بمشاريع بعيدة جدًا عن المشروع الوطني.

وعلى القيادة الجديدة قراءة التحولات العربية والإقليمية والأممية واستشراف آفاقها الواسعة والعميقة، لتتمكن من وضع أسس قوية لبناء جبهة أممية داعمة للقضية الوطنية الفلسطينية، وإزالة الشوائب والأدران التي لصقت بمنظمات الجبهة في الشتات والمغتربات الأوروبية والأميركتين، والكف عن الركض في متاهة الإسلام السياسي بمشتقاته الإخوانية والأحزاب الأخرى، التي لا تمت بصلة لله.؛ لأن حزب الله في العالم واحد، ويطال كل مواطن مؤمن به من كل الأديان السماوية بعيدًا عن كل أشكال النفاق السياسي ذات الخلفيات المتناقضة مع الهوية الوطنية والقومية العربية. 

مبروووك كبيرة للرفاق في الشعبية نجاح مؤتمرهم الثامن، وأرجو لهم المزيد من التقدم والتطور، وتحديد هويتهم الفكرية والسياسية بشكل متبلور وواضح بعيدًا عن الخلط الفكري والمفاهيمي والقيمي، وانسجامًا مع المشروع الوطني والقومي الديمقراطي. 

 

المصدر: الحياة الجديدة