لم يسبق أن تحول مونديال كروي إلى هذا الكم من العمل السياسي والدبلوماسي كما تحول مونديال روسيا هذه السنة. كثير من رؤساء العالم جاءوا محبين ومشجعين لمباريات كرة القدم، حتى أولئك الذين لا فرق لبلادهم في المونديال. مع هذا الكم من العمل السياسي، يحق لنا ان نستخدم مصطلح جديد في السياسة الدولية "دبلوماسية المونديال".

ما شهدناه من عمل سياسي ودبلوماسي مكثف ما هو إلا دليل، على المكانة المهمة التي باتت تتمتع بها روسيا على الساحة الدولية، ودليل اعتراف بدروها البارز في الكثير من الأزمات في العالم.

الرئيس بوتين المعروف بهدوئه ورباطة جأشه، اللذين ورثهما من جهاز المخابرات السوفياتية "KGB"، هو اليوم الأكثر قوة واستقرارا من بين زعماء العالم. من هنا فهو قادر على إدارة هذه الدبلوماسية ببرود أعصاب، وبما لديه من أوراق، ولكونه لا يخضع لأي ابتزاز، أما بفعل الأزمات أو عامل الوقت، كما هو حال معظم زملاء العالم.

أوراق بوتين ليست محصورة بالأزمة السورية، التي أصبح يمسك بزمام الأمور فيها، ولكن هناك ورقة الملف النووي الإيراني، وورقة دور إيران ونفوذها بالمنطقة، وهي ورقة مهمة في مجال المساومات، وهناك فرصة أكبر لبوتين مع ورقة القضية الفلسطينية بعد أن أخرجت واشنطن نفسها منها كوسيط، بعد إعلان الرئيس ترامب أن القدس عاصمة لإسرائيل.

أما أوراق بوتين من خارج الشرق الأوسط فتتعلق بالأزمة الأوكرانية، وجزيرة القرم، إضافة إلى الأوراق التي تتجمع بين يديه بسبب الشرخ وعدم الثقة في العلاقة بين إدارة الرئيس ترامب وأوروبا، أو بسبب الأزمات التي تعصف بالاتحاد الأوروبي وتهدد بتفككه. معادلة الرئيس بوتين واضحة كل الوضوح، فكلما تعمق تفكك التحالف الغربي، ازدادت روسيا قوة واندفعت إلى الأمام وأصبحت من اللاعبين الرئيسيين في العالم، هذه الحقيقة هي ما أثبتتها دبلوماسية المونديال.

على أيّ حال، دعونا نرى في كل ذلك بما يتعلق بنا نحن الشعب الفلسطيني، فلسطين والقضية الفلسطينية كانت موجودة بقوة في دبلوماسية المونديال، وعلى عدة مستويات. المستوى الأول يظهر مع الرئيس محمود عباس، هذا الرئيس المخضرم الذي عايش كل التطورات على الساحتين الإقليمية والدولية منذ أن دخل معترك السياسة والنضال مع فتح في نهاية خمسينيات القرن الماضي. الرئيس أبو مازن الذي شارك في دبلوماسية المونديال، هو القادر على إدراك أهمية هذه المتغيرات في المنطقة والعالم وإدراك ما بات لروسيا والرئيس بوتين من أهمية وبالتالي اختبار ما يمكن أن يفعل للقضية الفلسطينية.

أما المستوى الثاني فيتعلق بزيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو وحصته في دبلوماسية المونديال. إسرائيل بهذا الشأن باتت تدرك أن الجيش الأحمر الروسي يقف اليوم عند حدودها الشمالية، وبالتالي فإن روسيا قد تحولت مع هذا التطور الاستراتيجي إلى احد الضامنين للأمن الإسرائيلي، وبما أنها أصبحت كذلك، فهي بالتالي أحد اللاعبين البارزين بالشرق الأوسط الذين لا يمكن القفز عن دورهم. هذا المتغير النوعي علينا نحن الفلسطينيين أن نراه بدقة ونعرف كيف يمكن أن نستفيد منه، واعتقد أن الرئيس أبو مازن هو أكثر المدركين لأهمية هذا التغيير وكيفية الاستفادة منه، خصوصا انه حافظ طوال الوقت على علاقة خاصة مع بوتين وروسيا.

في الآونة الأخيرة، ومن موقع القوة، دعت موسكو إلى إحياء اللجنة الرباعية الدولية في شأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وربما لمجمل أزمات الشرق الأوسط. هذه اللجنة التي تضم كلا من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا الاتحادية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، كان دورها حتى الآن شكليا أقرب ما تكون إلى شاهد زور على تفرد واشنطن في العملية السياسية.

دعوة موسكو هذه إلى إحياء اللجنة الرباعية وإعطائها دورا حقيقيا وجديا تنسجم مع دعوات الرئيس أبو مازن، الذي طالما دعا إلى وجود إطار دولي واسع للإشراف على عمليه التفاوض. الدعوة الروسية المشار إليها والحاجة الفلسطينية لمنع تفرد واشنطن بالتسوية تبدو اليوم فكرة أكثر منطقية وقابلة للتطبيق، عبر إدخال الصين ودول عربية إليها.

إن المونديال، وكما هو معروف قد انتهى، إلا أن آثار دبلوماسية المونديال ستظهر مفاعيلها ربما بالمستقبل القريب، لننتظر ونرى.