لعلها من سخرية التاريخ، أن يتحدث إتباع التمويل الأجنبي، "المتحالفون" مع المال السياسي الحرام بأهدافه اللاوطنية، أن يتحدث هؤلاء باسم الشعب، وان يرفعوا شعارات المطالبات الحزبية باسمه، وهي بالمناسبة ليست الا شعارات اخوانية، وكأنهم جماعة ثورية (...!!) وهم أبعد ما يكون عن "الثورية" ولا يقربون ايا من معانيها التي تعرفها حق المعرفة، اغلبيات الشعب المناضلة في دروب الحياة من اجل لقمة العيش الكريمة، ويدركون قيمها وهم يشاهدون حياة الترف التي يوفرها التمويل الأجنبي لمسؤولي جماعاته على نحو خاص جدا، ويعرفون الأهم أن شروط هذا التمويل للكثير من هذه الجماعات فيما يعرف بمنظمات "الانجي اوز" إنما هي شروط التبعية بلا أية رتوش ولا أية اكسسوارات، ومن ذلك مثلا، نبذ كل مصطلحات المقاومة المشروعة حتى السلمية منها، تحت شعار مناهضة الإرهاب....!! في الوقت الذي يشترط فيه هذا التمويل، إثارة القضايا الثانوية، طردا للأولويات، وتشتيتا للجهد، وتشويها للوعي، وإضاعة للوقت، وتوظيفا للمال على نحو استهلاكي، وبما يناهض تماما ثقافة الإنتاج، الثقافة الأهم للبناء والتحرر.
وفي واقعة كنا شهودا عليها، ألغت مؤسسة تعليمية هنا، تتلقى تمويلا أجنبيا، أمسية لشاعر فلسطيني كبير، رحل عنا قبل عام وأكثر قليلا، بزعم أن قصائده تحرض على الإرهاب (..!!) والحقيقة لأن فلسطين في قصائد هذا الشاعر الكبير، بالغة التطلعات الوطنية، وتواقة للعدل والحرية والكرامة الإنسانية ..!!!
وفي حقائق اطلعنا عليها، بلغ التمويل الأجنبي لمنظمات "الانجي اوز" في بلادنا عام 2011 قرابة مليار دولار ...!!! وفي هذا العام تحديدا، ولهذا نشير إليه، كشف عن التمويل الأجنبي لهذه المنظمات في الشقيقة الكبرى مصر فبلغ قرابة 900 مليون دولار، وتكشفت الحقيقة الأهم أن هذا المبلغ استهدف هدم الدولة المصرية حينها والمفارقة بالغة الغرابة، مليار دولار "للانجي اوز" في فلسطين، وأقل من ذلك بمليون دولار لمصر التي هي اكبر من فلسطين مساحة وسكانا وقضايا اجتماعية واقتصادية وبما لا يقاس ..!! فلأي هدف المليار دولار في فلسطين، ان لم يكن لهدف ضرب وعي الدولة لكي لا تقوم لفلسطين دولة حرة مستقلة ..!!
وبكلمات أخرى أكثر وضوحا وتشخيصا، فإن هدم مشروع الدولة عندنا، لا يمر إلا عبر هدم وعي الدولة في حاضنته الاجتماعية، والتمويل الأجنبي المحمول على شروطه السياسية ومصالحه الخاصة، يدرك ذلك، ويعمل على تحقيق هذا الهدم، بتعميم ثقافة الاستهلاك بعولمتها التي تناهض الدولة الوطنية، الثقافة التي لا يخدمها سوى تحقيق لا الفلتان الأمني واشاعة الفوضى فحسب، بل وتحقيق أحط أنواع الفلتان المعرفي والقيمي ايضا، حتى لا يعود للعقد الاجتماعي اي مفهوم وأية وقيمة، ولا أية ضرورة في المحصلة ..!!
لهذا نكتشف ونعرف لماذا لا تنشغل معظم منظمات "الانجي اوز" بقضايا التحرر الوطني، أو بقضايا التنمية الاقتصادية او الاجتماعية او المعرفية، بثقافتها الإنتاجية، ولا تنشغل حتى بقضايا الديمقراطية بخصوصياتها الوطنية، فيما تطرح ابرز القضايا الاجتماعية بغربنة مطلقة إلى حد كبير ...!! وحرية التعبير مع هذه الثقافة، هي حرية الشتيمة والاتهام وفبركة الشعارات التي لا علاقة لها بواقع الحال في بلادنا ..!! ومن ذلك مثلا من أين لنا "حكم عسكر" كي نتظاهر ونرفع الشعارات ضده ونطالب بإسقاطه ...!!؟؟
وعلى أية حال سبق السيف العذل، فقد سقطت أهداف الحراك الأميركي الذي كان قبل قليل في الساحة العربية، الأهداف التي أرادت عزل الرئيس أبو مازن عن محيطه العربي، وضرب علاقاته مع أشقائه العرب، علاقات التنسيق المشترك التي أثمرت موقفا عربيا مناهضا لصفقة ترامب الصهيونية التصفوية، وها هي الإدارة الأميركية كما تقول أنباء عديدة "تستجدي دولا عربية لعقد لقاء مع الرئيس أبو مازن" (عنوان لجريدة الأيام)، وكوشنير صهر الرئيس الأميركي ترامب ومستشاره قال في مقابلة صحفية مع جريدة القدس "إنه يؤمن أن الرئيس عباس ملتزم بالسلام، وأنه مستعد للعمل مع الرئيس أبو مازن (...!!) وان القادة العرب يريدون دولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية".
بالطبع لن يغرينا كلام كوشنير هذا كثيرا، وبالقطع لن يخدعنا لتمرير خديعة الحل الإنساني، ولن نرضى موقفا أميركيا يعيد الولايات المتحدة شريكا في عملية السلام قبل أن تعلن الإدارة الأميركية عدم صلاحية صفقة ترامب لأي حل. لكن لا بد أن نقول ... وهكذا اعترف صاحب التحويلات المالية، لا احد بوسعه أن يتجاوز القيادة الفلسطينية الشرعية، وطريق الحل العادل هو طريقها ولا طريق سواها، وعلى الإتباع أن يفهموا الدرس جيدا، لعلهم يلملمون شعاراتهم وهتافاتهم وينسحبون إلى مراجعات نقدية لطبيعة أدوارهم وحقيقتها، قبل أن يداهمهم القول الوطني الفصل في طبيعة هذه الأدوار وحقيقتها وعندها لكل حادث حديث.