التأم شملُ الأوفياء لفلسطين وعاصمتها الأبدية القدس العربية الفلسطينية، وذابت ثلوج التشكيك والتحريض والتضليل، وأشرقت شمسُ الأصالة الوطنية الفلسطينية بقرارها المستقل البعيد عن التدجين، أو التبعية، أو الإلحاق، وانعقد المؤتمرُ الفلسطيني، مؤتمر المجلس المركزي في دورته الثامنة عشرة. نعم انعقد هناك في مدنية رام الله، وقريباً من ضريح الشهيد الرمز ياسر عرفات، هناك في المقاطعة الصامدة، التي صمد فيها أبو عمّار تحت قصف الطائرات، والمدفعية، وأنياب الدبابات والجرّافات، ولم يستسلم، واختار أن يكون شهيداً .. شهيداً.. شهيداً. ولم يقبل اللجوء إلى أي عاصمة عربية أو غربية لحماية نفسه، وإنَّما اختار أن يحمي كرامة وشرف الشعب الفلسطيني، وأن يلقِّن الاحتلال الدرسَ القاسي والأساس بأنَّ فلسطين، وأرضها، وشعبها، ومقدساتها هي قلب الأمة، ووجدانها، وهي ليست للبيع والشراء، وهي تحيا بدماء الشهداء، وبركة الأنبياء.

في هذا المكان المبارك انعقد المؤتمر المركزي بقيادة القائد التاريخي، وحوله لفيفٌ من القادة المؤصَّلين الذين استجابوا لنداء أرض فلسطين، وقوافل شهداء فلسطين، وآلاف الأسرى القابعين في زنازين الاحتلال، والذي ينتظرون رؤية إشراقات الوحدة والمصالحة، والتضامن بوجه الاحتلال، أي إشراقة الحُريّة والاستقلال.

سقطت رهانات كلِّ الذين بنوا آمالهم، ومواقفهم، ورؤيتهم على انهيار الصف الوطني، وتعميق الشرخ في الموقف السياسي الفلسطيني، من أجل التسلُّق على هامة القرار الفلسطيني المستقل، وإخضاعه لشهوات، ورغبات، ومؤامرات المشروع الأميركي الإسرائيلي ومن لفَّ لفَّه. ومن أجل عملية إفشال المؤتمر، وضعضعة الصفوف، وإِرباك الجماهير، وشحنها بالأحقاد استُخدِمَت بعض القنوات، والإذاعات، والكثير من الوسائل الإعلامية المرئية والمسموعة، لتطرق مسامعَ أبناء شعبنا، وكل المتابعين بوابل من قنابل التحريض، وإغراق القيادات الفلسطينية الوطنية في بحر من الشتائم، وطمس كافة الإنجازات والتضحيات، وبالتالي نشر روح التشاؤم، والإحباط، والاختلاف، وبذلك يبقى الاحتلال هو سيّد الموقف.

مؤتمر المجلس المركزي الفلسطيني بقيادة رئيس دولة فلسطين محمود عبّاس، خليفة الرمز ياسر عرفات، والثابت على الثوابت الوطنية، والحريص حتى النخاع على الوحدة الوطنية، نجح في كلِّ إجراءاته، وتحضيراته، وحواراته، ونتائجه الإيجابية رغم وجود الاحتلال الصهيوني، وتهديداته، وأثبت للقاصي والداني بأنَّنا قادرون على أخذ قرارنا بجرأة وشجاعة فنحن أصحابُ الأرض، ونحن قادةُ شعبٍ أصيل بانتمائه، وتاريخه النضالي العريق، وكما قال الرئيس أبو مازن بأنَّنا في أرضنا أسياد وأحرار تمامًا مثل الأسرى الأبطال الذين يأخذون قراراتهم بقوة الإرادة والقناعة، وهُم أسياد في المعتقلات والزنازين. وبالتالي إذا كنا تحت الاحتلال فنحن مقاومون، ولا نرضخ، ولا نستسلم.

إنَّ سيادة الرئيس محمود عبَّاس في كافة خطاباته، ومواقفه خاصّةً بعد عدوان ترامب على القضية الفلسطينية، وعلى القدس عاصمة فلسطين الأبدية، كان صادقاً مع شعبه، فهو يتصرف، ويفكِّر، ويقود من موقعه المسؤول، كقائد للشعب الفلسطيني، وليس كمسؤول عن تنظيم أو حزب. لذلك هو بعيد عن الارتجال، والعفوية، أو الانسياق مع هذا التيار أو ذاك، بحثاً عن امتيازات خاصّة به، أو بحركة "فتح"، وإنما الهدف المركزي هو استمرار الثورة حتى النّصر، وإزالة الاحتلال، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة.

قراراته ليست عشوائية، وإنَّما هي مدروسة، وتخضع لحسابات دقيقة، وهو يعرف كيف يُحدِّد المواقف، ويصنِّف المعطيات، ولا تبهرهُ الأضواء، وإنَّما يبحث عن جوهر الأشياء.

ومن هذا المنطلق جاءت القراراتُ ملبيةً للالتزامات التي قدَّمها، ومنسجمة مع الطموحات الفلسطينية. وقد وضع مجموعة ضوابط سياسية لتصويب القرارات والوجهة المستقبلية، وهي نابعة من التجربة السابقة بكل ما فيها من مرارة ومعاناة، وما فيها من إيجابيات وسلبيات، وقد ترجمها المجلس المركزي في قراراته حيث جاء فيها:

لن نقبل أن تكون سلطة دون سلطة على الأرض، ولن نقبل وجود الاحتلال دون كلفة.

نتمسَّك بالعملية السياسية السلمية، والاستعداد للانخراط في أيّة مفاوضات برعاية دولية لتحقيق أهدافنا.

نتمسَّك بحقِّ شعبنا بممارسة كافة أشكال النّضال ضد الاحتلال، وَفْقًا لأحكام القانون الدولي، والاستمرار في تفعيل المقاومة الشعبية السلمية في مواجهة الاحتلال.

هدفنا هو الانتقال من سلطة الحكم الذاتي إلى مرحلة الدولة الفلسطينية التي تناضل من أجل استقلالها، والبدء بتجسيد سيادة دولة فلسطين بعاصمتها القدس الشرقية.

من خلال هذه الضوابط أصبح المسار المستقبلي واضحاً. فما قبل المؤتمر شيء، وما بعده شيءٌ آخر.

فاتفاق أوسلو الذي وقَّعنا عليه العام 1993 لم يعد قائمًا، لأنَّ الطرف الإسرائيلي لم يُنفِّذ ما التزم به، وانتهى العام 1999، والأمور إلى مزيد من التدهور، فالاستيطان تضاعف، والإعدامات زادت، وهدم البيوت يتمُّ بشكل يومي. والعدو يرفض أن ينعى اتفاق أوسلو رغم أنَّه هو الذي قتله، والسبب أنه لا يريد تحمُّل التبعات السياسية عن جريمته أمام العالم.

ونحن نقول رأينا بشكل منطقي، وقياسًا إلى الوقائع، بأنَّه لم يعد اتفاق أوسلو على قيد الحياة، لأنَّ نتنياهو هو الذي تجرَّأ على قتله، بهدف تعطيل كلِّ الطموحات الفلسطينية على أرضهم أسوةً بباقي الشعوب.

والحديث عن اتفاق أوسلو ومآله يقودنا إلى توضيح تفصيلات اتفاق أوسلو، والموقف منها، وما قرَّره المجلس المركزي كان موضوعيًّا وعقلانيًّا، ووضع الاحتلال في قفص الاتهام، والتوجهات حاسمة، ولا خلاف حولها:

فاللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وهي المعنية بتنفيذ قرارات المجلس المركزي أُوكلت إليها مهمة تعليق الاعتراف بـ(إسرائيل) إلى حين اعترافها بدولة فلسطين على حدود العام 1967، وإلغاء قرار ضم القدس الشرقية ووقف الاستيطان. وحسب الواقع فإنَّ الاحتلال لن يلبي المطالب الفلسطينية، ولا يستطيع ذلك ككيان صهيوني، لذلك من حيث المنطق نستطيع القول بأنه لا يوجد اعتراف بالكيان الصهيوني.

كما كُلِّفَت اللجنة التنفيذية من قبل قيادة المجلس أن تُنفِّذ عملياً قرار وقف التنسيق الأمني بكافة أشكاله، والانفكاك من علاقة التبعية الاقتصادية التي كرَّسها اتفاق باريس الاقتصادي.

نحن مُتَّفقون على تحديد رؤيتنا المستقبلية والتي تتجسَّد بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية على حدود 4/6/1967، والذي يعني إزالة الاحتلال.

والمجلس المركزي أكَّد التمسُّك بالعملية السلمية، والاستعداد للانخراط في أية مفاوضات برعاية دولية لتحقيق أهدافنا، ولكن ليس عبر الولايات المتحدة.

إذاً بعد انتهاء أوسلو، والتنسيق الأمني، والاتفاق الاقتصادي الباريسي، وبعد أن قررنا ترجمة مفهومنا الحقيقي والجوهري للسلطة الوطنية بأنها هي وسيلة لبناء الدولة الفلسطينية، فإنَّ لهذه الالتزامات الوطنية أثمانًا باهظة، وجهودًا مضنيةً على أرض الميدان بوجه الاحتلال لحسم الصراع لصالحنا.

أولاً: على الجميع مغادرة مربع الانقسام لرسم استراتيجية واضحة، وتجسيد الوحدة الوطنية.

ثانياً: علينا أن نُوحِّد قرارنا الفلسطيني باتجاه أهدافنا الوطنية الفلسطينية، والالتزام بالقرارات، والتوجهات المركزية، خاصّةً أنَّنا في معركة شرسة ضد الاحتلال، وحليفته واشنطن، وعلينا أن نُغرِّد داخل الوطن الفلسطيني.

ثالثاً: من خلال القرارات التي تمَّ اعتمادها أصبحنا كشعب فلسطيني وجهًا لوجه في صراع متواصلٍ ضد الاحتلال الصهيوني، وفي ميدان واحد، وليس أمامنا سوى القتال حتى النّصر. ومن هنا كان التركيز على أنَّه من حقِّ شعبنا ممارسة كافة أشكال النضال ضد الاحتلال، وَفْقًاً لأحكام القانون الدولي، والاستمرار في تفعيل المقاومة الشعبية السلمية وتعزيز قدراتها. ولا شك أنَّ اختيار شكل المقاومة تقرره القيادة الفلسطينية، لأن المطلوب أن يكون منسجماً مع الواقع الذي نعيش، وأن يعطي المردود السياسي المطلوب لإيصالنا إلى أهدافنا. والقيادة هي التي تطور الأساليب والأدوات النضالية استنادًا إلى الواقع، وليس بإمكان فصيل بعينه أن يفرض ما يريد بعيدًا عن الإجماع.

رابعاً: من الواضح أنَّ القيادة الفلسطينية وعبر مسيرتها الطويلة، ومن خلال تراكم المواقف والقرارات تدرك أنَّ الأمم المتحدة التي ظلمتنا في قرار التقسيم 181 العام 1947، وقدَّمت 56% من أرضنا للعدو الصهيوني هي مُلزِمة اليوم بعد تلك الجريمة التي قادتها واشنطن ولندن أن تنصف الشعب الفلسطيني. وهذا ما فرضته "م.ت.ف" عبر مسيرتها الوطنية، فاستعادت الهُوية الوطنية، ورسمت الكيان السياسي الفلسطيني على خارطة العالم. ومن هنا جاء الاعتراف بمنظمة التحرير ممثِّلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، وبعدها الاعتراف بدولة فلسطين عضواً مراقباً.

ومن هنا فإنَّ القيادة الفلسطينية وَجَدَتْ أنَّ السلاح الأمضى الذي بإمكاننا استثماره هو الاستناد إلى الأمم المتحدة، وتفعيل قراراتها المتعلِّقة بالقضية الفلسطينية، والاستناد إلى الجمعية العمومية، وأحيانًا إلى مجلس الأمن، من أجل تحريك العالم باتجاه نُصرة الشعب الفلسطيني، وحقوقه الوطنية المشروعة، واستصدار قرارات تدعم هذه الحقوق رغماً عن الولايات المتحدة، والاحتلال الإسرائيلي مثل القرار 2334 الصادر عن مجلس الأمن. فالعملية السياسية، وتفعيل قرارات الأمم المتحدة أمرٌ حيوي بالنسبة للقيادة الفلسطينية.

إنَّ القضية الأبرز هي إضافة إلى ما تمَّ ذكره، من هي القيادة الميدانية التي ستتحمَّل مسؤولية إدارة أوضاع المجتمع الفلسطيني تحت الاحتلال، هل هي الحكومة ذاتُها كحكومة تحت الاحتلال، أو أنَّ هناك توجُّهاً لتحميل مسؤولية هذا الدور للجنة التنفيذية للمنظمة، أو أن تكلّف اللجنة التنفيذية لتشكيل حكومة وطنية جديدة عليها إجماع فلسطيني تدير كافة شؤون الداخل بما في ذلك تشكيل قيادة ميدانية لدعم الانتفاضة، وتوجيهها، وتفعيلها. إنَّ مثل هذه القضايا الحساسة هي من أولويات اهتمام القيادة الفلسطينية، وبذلك تكون ركائز العمل الوطني الفلسطيني قد انتظمت، وتكاملها يساعد على وجود قرار سياسي واحد عبر "م.ت.ف"، وحكومة وطنية تعالج الشؤون الداخلية، وقيادة ميدانية اختصاصها توجيه الانتفاضة عملياً، وإدارتها. أمَّا القرار السياسي فالقيادة الفلسطينية معنيّة بخوض المعركة السياسية والدبلوماسية في الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، والانتماء إلى المؤسسات الدولية لتطويق الجانب الإسرائيلي، وعزله ومحاربته، والكشف عن عنصريّته وسلوكه الإرهابي.

القيادة التي نجحت في قيادة المجلس المركزي في اجتماعه الأخير، ستعمل على توضيح وتفعيل كافة القرارات، والكشف عن كلِّ الملابسات، وتوحيد الموقف حتى تكون مسيرة وحدَوية جديدة.