خاص مجلة "القدس" العدد 337 ايار 2017

تقرير/ منال خميس

في مشهد يدعو للسخرية أكثر منه للبكاء، يقف رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، إسماعيل هنية، خلف بابٍ خشبي كبير يتوسّط سورًا عاليًا من الطوب الأحمر والخشب القديم، يحيط به ويعتليه مسلّحون، ينفِّذون عملية عسكرية تُحاكي اقتحاماً لباحات المسجد الأقصى. هنية يفتح البوابة بحماسة، ووسط تكبيرات وهتاف جماهيري يعلن تحرير القدس، وتخليص الأقصى من آسريه، من الاحتلال وقطعان المستوطنين، ويتدافع الناس نحوه ليهنّئوه. كان المشهد السابق تمثيلياً افتتح فيه هنية مدينة الإنتاج الإعلامي بمحافظة خان يونس، جنوبي قطاع غزة. وفي ظل تتابع المشهد على شاشات التلفاز في كل نشرات الأخبار وكأنَّ الأقصى تحرَّر بالفعل، أصبح المواطن المقهور لا يدري هل يرثي نفسه؟! أم يرثي غزة بمجموع أزماتها؟

قطاع غزة على شفا كارثة إنسانية!

 قطاع غزة الذي يغرق حكامه في ملكوت الثروة، والتمثيل، والقوة والجاه، بات على بُعد خطوة واحدة من الانهيار، جرّاء أزماته الجديدة القديمة، وأصبح على شفا كارثة إنسانية قد تندلع في أي وقت، إثر أزمة واحدة على سبيل المثال وهي أزمة الكهرباء، فقد بدأ الارتباك يظهر جلياً في عمل محطات ضخ مياه الشرب، وفي تصريف مياه المجاري، وفي الأجهزة الطبية في المستشفيات، وفي مرافق تطهير المياه العادمة، وتوقَّفت خدمات عامّة حيوية عن العمل، والبحر يتعرَّض للتلوث، وهناك ضغط فائض على المولّدات الكهربية.

وقد حذَّرت المؤسّسات الحقوقية والدولية في تقاريرها من الوضع الكارثي الذي يمرُّ به قطاع غزة، ومن ضمنها تقرير لمركز الميزان لحقوق الإنسان، وصل "القدس" نسخة عنه، أشار إلى  تدهور خطير للأوضاع الإنسانية في قطاع غزة، بشكل غير مسبوق. وأشار التقرير إلى أنَّ الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة، تشهد تدهوراً غير مسبوق بفعل الإجراءات غير الإنسانية التي يخضع لها القطاع، والتي تُسهِم في مزيد من تدهور حالة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأوضاع الإنسانية في قطاع غزة.

وأشار مركز الميزان إلى توقف محطة توليد الكهرباء الوحيدة في قطاع غزة كليّاً عن توليد الطاقة منذ منتصف نيسان الماضي، ومع الأعطال شبه اليومية في خطوط التغذية المصرية والإسرائيلية، فقد تقلَّصت ساعات التزويد إلى ما دون الأربع ساعات يومياً. وظلَّت أزمة التيار الكهربائي تراوح مكانها بدون بوادر للحل، وبدون الاكتراث من جانب السلطات الحكومية بالآثار الكارثية التي تُسبِّبها للسكان والتي تحول دون تهيئة ظروف من شأنها تأمين الخدمات والعناية الطبية للمرضى وتسهيل حياتهم اليومية، ولاسيما سكان الأبنية متعدِّدة الطبقات، التي تحوّلَت حياتهم إلى جحيم في ظل انقطاع التيار الكهربائي المتواصل الذي يرتبط بوصوله وصول المياه، وتشغيل المصاعد.

ونوّه التقرير إلى اشتداد الحصار الإسرائيلي الخانق المفروض على القطاع، الذي طال السكان عامةً ولم يستثنِ أضعف الفئات من المدنيين وهم المرضى، التي تشهد أوضاعهم تدهوراً خطيراً جراء القيود المفروضة على حريتهم في الوصول إلى المستشفيات خارج قطاع غزة.

ووفقاً لدائرة التنسيق والارتباط بوزارة الصحة الفلسطينية بلغ عدد طلبات المرضى المقدَّمة للسلطات الإسرائيلية منذ مطلع العام 2017م حتى 6 أيار 2017م (10,162) طلباً سُجِّلت فيها نسبة (46%) من الرفض والمماطلة، ممّا أدى إلى تدهور الأوضاع الصحية للعديد من المرضى بل وفقدان بعضهم حياتهم، وهم ينتظرون الحصول على موافقة السلطات الإسرائيلية، والسماح لهم باجتياز معبر بيت حانون (إيرز) للوصول إلى المستشفيات، هذا في ظل تدهور أوضاع الخدمات الصحية والتهديد الجدي بنفاد مخزونات وزارة الصحة في قطاع غزة من الأدوية.

 ولفت التقرير إلى أنَّ الأزمات المركبة أدَّت إلى تردي الأوضاع المعيشية وانخفاض إنتاجية القطاعات الاقتصادية عامةً والقطاع الصناعي خاصةً، بعدما توقَّفت خطوط الإنتاج في العديد منها، ممَّا دفع أرباب العمل إلى تسريح العمّال.

وعلى صعيد قطاع الخدمات انحسرت خدمات مياه الشرب فانخفضت حصة الفرد اليومية من المياه، كما تأثَّر عمل محطات معالجة مياه الصرف الصحي، وقدرتها على تجميع وضخ المياه.

وعبَّر الميزان، عن استنكاره لاستمرار تجاهل الأوضاع الإنسانية الكارثية التي تطال كافة شرائح المجتمع مجدِّدًا تأكيده على مسؤولية سلطات الاحتلال الأساسية عن حياة السكان في القطاع ورفع الحصار فوراً وتمكين عجلة التنمية من الدوران.

انقطاع الكهرباء يشل حياة المواطنين اليومية

تأتي هذه التطورات المتسارعة مع حلول موعد الاختبارات النهائية للتلاميذ والطلاب في المدارس والجامعات لاسيما امتحانات الثانوية العامة بعدما شارف العام الدراسي على الانتهاء.

 ومن المنتظر حلول شهر رمضان المبارك الذي يحين موعده في فصل الصيف وفي ظل ارتفاع درجات الحرارة، وخاصةً في ظل عدم قدرة عموم المواطنين على توفير بدائل لمصادر التيار الكهربائي. لتشهد هذه المناسبات الدينية وغيرها ظروفاً لم يشهدها القطاع من قبل.

وكانت شركة توزيع كهرباء غزة قد قرَّرت تقليص ساعات الوصل إلى 4ساعات فقط مقابل 18ساعة قطع. وحسب شركة توزيع الكهرباء في غزة فإنَّ تقليص ساعات الوصل جاء اضطراريًّا بسبب العجز الذي وصل إلى 75%.

المواطنة مريم حسنين (38 عامًا) من سكان حي الشجاعية بمدينة غزة قالت لـ"القدس":  "حياتنا بسبب أزمة الكهرباء شبه مشلولة، فكل حياتنا تعتمد عليها، والآن تأتي في أحسن الأحوال من 4 إلى 6 ساعات باليوم، فكيف سأنجز أعمالي المنزلية، وأقوم بتدريس أطفالي، في هذه الساعات القليلة.. إنَّ خللاً كبيراً في كل شؤون حياتنا يحدث".

وشكا المواطن سليم الشرافي في حديثه للـ"القدس" من ارتفاع أسعار بدائل الطاقة، فقد قام بشراء بطارية "UPS" بنحو 2000 شيكل، ولكنّها لم تصمد سوى عدة شهور، ممّا اضطَّره لتركيب شبكة بديلة كلّفته أكثر، والأسوأ من ذلك أنه يقوم بدفع الفاتورة المتصاعدة للشركة في الوقت الذي لا تكاد تصل فيها الكهرباء إلى بيته.

أمَّا الطالبة في الثانوية العامة ربا حلاوة فقد قالت للـ"القدس" بسخرية : "ما بدنا كهربا، نور قياداتنا كفاية، ويا رب ننجح هالسنة، أنا بس أنام بتيجي الكهربا، وبس أصحى بتكون خلصت الـ4 ساعات وانقطعت".

وتساءلت الطالبة بعصبية: "هل تنقطع الكهرباء في بيت إسماعيل هنية أو الزهار، أو أي أحد من قيادات حماس؟! هل يعاني أولادهم من انقطاع الكهرباء ليواصلوا دراستهم؟! هل هم مثلنا؟! أم تتنزل عليهم كهرباء ربانية من السماء؟".

إلى ذلك انتقد القيادي في حركة حماس د.أحمد يوسف وضعَ الكهرباء في قطاع غزة، وقال د.يوسف في تدوينة له على صفحته الخاصة للتواصل الاجتماعي "الفيسبوك": "الكهرباء في ذمة الله"، "الطاقة الشمسية أو العودة إلى عهد السراج واللمبَّة الكاز". وأضاف: "يبدو أنَّ عملية قطع الكهرباء والتلاعب بأعصاب الناس غدت لعبةً لن تنتهي، وتسبَّبت بتلف الكثير من المعدات المنزلية، وأربكت حياة الناس بكثرة تقلباتها".

وتساءل: "لماذا لا تتحرَّك الجهات المسؤولة بحملة لتشجيع استخدام الطاقة الشمسية، ويبدأ الناس في تكييف حياتهم باعتماد الطاقة البديلة، ومن باب تخفيف استخدام الكهرباء على الشبكة العامة، فلتبدأ الحملة بالمساجد، حيث يتم تركيب لوحات الطاقة الشمسية، ثم توسيع الأمر ليشمل المستشفيات والمدارس ونحو ذلك".

وأضاف: "في حال عدم توفر القدرة على تبني مشروع الطاقة البديلة، فلتتفضَّل الجهات الحاكمة بتوفير ما كنا نستخدمه قبل ستين عاماً من أدوات لإنارة بيوتنا، أي السراج أو اللمبات الكاز. قد يبدو الأمر مضحكاً أو مثيراً للشفقة، ولكنه حكم الضرورة".

انقطاع الكهرباء يهدِّد بأزمة إنسانية في القطاع

ومن جانبها نشرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر على صفحتها الإقليمية تصوراً عن الأوضاع الصعبة التي يعيشها قطاع غزة، بسبب أزمة الكهرباء .

وقالت اللجنة الدولية للصليب الأحمر: "وصل شح الطاقة والنقص الحاد للوقود في غزة إلى مستوى حرج، ما يهدِّد توفير خدمات أساسية، بما فيها الرعاية الصحية ومعالجة مياه الصرف الصحي وإمدادات المياه النقية. وتلوح في الأفق أزمة في قطاعي الصحة العامة والبيئة إذا لم يحدث تدخل فوري. وفي الوقت الحالي، لا يصل التيار الكهربي إلى سكان غزة، في أفضل الحالات، إلا لنحو 6 ساعات فقط يوميًّا.

وقد أضيرت جميع جوانب الحياة في غزة بسبب هذه الأزمة، ويوشك أن يحدث انهيار شامل للبنية التحتية والاقتصاد المتهالكين فيها بالفعل".

وبدوره قال نائب نقيب الصحفيين د.تحسين الأسطل للـ"القدس"، إنَّ "الخطر يتربَّص بقطاع غزة جراء أزمة الكهرباء التي استفحلت مؤخَّراً".

ويرى د.الأسطل أنَّ تواصل أزمة الكهرباء في غزّة يضع المواطنين أمام خطر حقيقي، فالأزمة الإنسانية باتت وشيكة، وقد تندلع في أي وقت، لا سيما أنَّ أزمة الكهرباء تسبَّبت بتدهور تزويد المياه، وتدفق كميات هائلة من المجاري غير المعالجة إلى البحر، وأصبح عمل المستشفيات في خطر، وكذلك طلاب المدارس فترة الامتحانات في خطر، وجميع مصالح المواطنين وأعمالهم حتى الأجهزة الكهربائية في البيوت في خطر.

وأضاف للـ"القدس": "المواطنون يتحمَّلون نفقات باهظة لتوفير وسائل بديلة للكهرباء، والمشكلة أن البدائل ليست كلّها آمنة"، وأردف متسائلاً: "هل 4 ساعات يومياً من الكهرباء تكفي لإدارة حياة أسرة صغيرة، من دراسة وغسيل، وكي، وأبحاث جامعية؟! لقد رتَّب الناس حتى جدول زياراتهم الأسرية بناء على مواعيد وصل وقطع الكهرباء، فكيف لي أن أزور شقيقتي التي تقطن في الطابق السابع في أحد الأبراج، بدون وجود كهرباء للمصعد؟ ومن جهة أخرى كيف سأخرج وأُضحّي بـ4 ساعات كهرباء إذا كان دورنا في وصل الكهرباء في هذا الوقت؟".

وأوضح د.الأسطل مدى صعوبة عمل قطاع الصحفيين في ظل انقطاع التيار الكهربائي المتواصل موضحاً أنَّ عمل معظم الصحفيين يتأخّر بسبب صعوبة نقل الأخبار والصور والمواد الصحافية من المراسلين إلى وكالات الأنباء التي يعملون بها.

وحمّل الأسطل حركة "حماس"، وشركة توزيع كهرباء غزة، وسلطات الاحتلال الإسرائيلي، المسؤولية عن تدهور حالة البنية التحتية في القطاع، مؤكداً أنَّ عليها العمل فورًا للمساهمة في الحلول، فالأزمة الحالية ليست مفاجئة، بل هي نتيجة تدهور تدريجي يستمر منذ قرابة عقدين من الزمن وينبغي على جميع الجهات تحمُّل المسؤولية.

وطالب الأسطل جميع الجهات بالتعاون لإيجاد حلولٍ خلاّقة للتخفيف من أزمة الكهرباء، مؤكداً أنَّ هذه الأزمة هي نتاج لسلسلة قرارات، وليست نتاجًا لكارثة طبيعية، ومن الواجب اتخاذ قرارات أخرى مغايرة لحلها.

القطاع الصحي هو الأكثر تضرراً

حذّر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في بيان وصل "للقدس" نسخةٌ عنه، بأنّه في حال استمرار هذا التقليص الخطير في تزويد الكهرباء، فإنَّ المستشفيات العامة الـ144 في أرجاء القطاع ستُضطّر إلى وقف تقديم خدمات حيوية إذ إنَّ خزانات الوقود المخصَّصة لتشغيل المولّدات في تلك المستشفيات ستنتهي خلال أسبوع..

 كما حذّرت وزارة الصحة في قطاع غزة، من توقف خدماتها جرّاء نقص الأدوية والمستلزمات الطبية بمستودعاتها. وخلال مؤتمر صحفي قال مدير عام قطاع "الصيدلة" في الوزارة منير البرش: "النزف الخطير في قوائم أرصدة الأدوية والمستهلكات الطبية أخذَ منذ مطلع العام مؤشراتٍ تصاعدية، ونقص الأدوية واستمرار أزمة الكهرباء، يشكّلان تهديداً خطيراً على مجمل الخدمات الصحية المقدّمة".

وحول الحلول الممكنة لأزمة الكهرباء، لفت مدير العلاقات العامة بالغرفة التجارية ماهر الطباع، إلى أنَّ القطاع الخاص قدّم نماذج عديدة لاستخدام الطاقة الشمسية كبديل في ظل استمرار أزمة الكهرباء.

وأوضح الطباع أنَّ المواطنين استنزفوا خلال عشر سنوات منذ تفاقم أزمة الكهرباء ملياراً ونصف المليار دولار، كان بالإمكان استثمارها في الطاقة البديلة والتخفيف من الأزمة.

وأضاف: "أزمة الكهرباء تستنزف أموال المواطنين، ومن المفترض وضع خطة شاملة لمشاريع الطاقة البديلة والعمل على استثمارها بأفضل طريقة".

وذكر أنَّ دولة قطر كانت قد تبرَّعت بـ12 مليون دولار لشراء وقود صناعي لمحطة توليد الكهرباء لثلاثة شهور، مؤكداً أنَّه بإمكان هذه الأموال إنشاء محطة شمسية بغزة لإنتاج 12 ميغا واط.

وطالب الطباع الحكومة في غزة بإعفاء المواطنين من الضرائب المفروضة على وسائل الطاقة البديلة، داعياً البنوك للمساهمة بدعم مشاريع الطاقة البديلة.

وهكذا... فإنَّ قطاع غزة منذ أكثر من 11 عامًا، بالإضافة إلى الانقسام السياسي والبطالة، وإعمار لم يكتمل، والارتفاع في معدلات الفقر، والمرض، والجريمة، وحكم العسكر، والقمع، والاعتقال السياسي، وتوقعات الحرب، وإغلاق معابر، ومنع من السفر، وشهر رمضان حزين، يشهد فوق كل ذلك أزمة كهرباء متدحرجة، بحيث لا تصل إلى المنازل سوى 4 ساعات يوميَّا، وبسببها أطلق مؤخّراً ناشطون غزيون على صفحاتهم للتواصل الاجتماعي وسم (هاشتاج) "مش مهم الكهرباء المهم الأخلاق".