لم تترك إسرائيل أيّة فُرصة إلّا واستغلَّتها للمس بأهالي الداخل الفلسطيني والمقدسيين بسبب دفاعهم المستميت عن الأقصى والمقدّسات. وقد أمعنت المؤسّسة الإسرائيلية في التنكيل بهم بشتى السُّبُل والوسائل، ومن بينها اعتقال عدد منهم مؤخَّراً فقط بتهمة "الرباط في المسجد الأقصى"!.

اعتقال فلسطينيين بتهمة "الرباط في الأقصى"
 اعتقلت المؤسّسة الإسرائيلية عدداً من فلسطينيي الداخل بتهمة "الرباط في المسجد الأقصى"، مِن بينهم: الشاب محمد إبراهيم المقيم في قرية كابول في منطقة الجليل، والحاج عبدالكريم دهامشة من كفر كنا، حيثُ أبعدته المؤسسة عن بيته إلى قرية المشهد، والحاج اسماعيل لهواني ابن بلدة عرابة، الذي أُبعِدَ من بيته إلى دير حنا، والحاج إبراهيم السوطري الذي أُبعِدَ إلى مدينة شفاعمرو، بينما لا تزال تعتقل الدكتور حكمت نعامنة، وكل ذلك بذريعة مناصرة المصلين ودعمهم والصلاة في المسجد الأقصى المبارك. كما تعمد المؤسسة الإسرائيلية لمضايقة النساء المرابطات في المسجد الأقصى، واللواتي يعطين دروساً في قراءة القرآن الكريم، وعدا عن د.حكمت نعامنة، الذي ما زال معتقلاً، فإنَّ الشاب ابن العشرين عامًا محمد خالد ابراهيم، معتقل منذ الحادي عشر من شهر نيسان عام 2016، وحول تفاصيل اعتقاله قال رئيس لجنة الحريات في الحركة الإسلامية الشيخ كمال خطيب: "الأسير محمد إبراهيم، اعتُقِل إداريًا ولم توجَّه ضدَّه تهمة ولم يتم تذنيبه، اللهم، إلا إن اعتُبِرَت الصلاة وحُبُّ المسجد الأقصى المبارك تهمةً كبيرة وخطيرةً في نظر هذه المؤسسة الإسرائيلية التي تتيح لليهود الصلاة متى شاؤوا وفي أي ساعة، بينما تحرم الفلسطينيين من حقهم في تأدية الشعائر الدينية خاصةً أيام الجمعة المباركة".
كلام الشيخ كمال خطيب جاء خلال وقفة تضامنية مع المعتقل الإداري محمد إبراهيم شاركت فيها حشود من المتظاهرين وبينهم ناشطون في الحركة الأسيرة وقيادات من مختلف الحركات والأحزاب السياسية والوطنية الفاعلة، حيثُ أضاف: "لا يزال الأسير محمد إبراهيم معتقلاً، وقد جرى قبل نحو أسبوع تمديد اعتقاله، بينما سيتم البت نهائيًا في قضيته في الثاني من شهر حزيران المقبل. وإضافةً إلى الشاب محمد إبراهيم فإنَّ الشاب محمد خالد جبّارين ابن بلدة أم الفحم، لا يزال معقلاً حتى اليوم، على أن يُطلَق سراحه في الثاني من شهر حزيران المقبل، وهو المعتقل منذ نحو سنة بتهمة الرباط في المسجد الأقصى أيضاً، في محاولة من المؤسسة الإسرائيلية لتلقين الفلسطينيين درساً حول تبعات التفكير في حب القدس والمسجد الأقصى المبارك، ولكنّنا نوجّه رسالة حب ووفاء لمحمد إبراهيم ودعوة صمود له".
وتابع: "إنّ أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، وهذا السلطان الجائر الظالم الوقح، الذي اسمه حكومة إسرائيل وعلى رأسها نتنياهو، لم يبقَ في جعبته إلّا ملاحقة المصلين في القدس والمسجد الأقصى المبارك، وقد يقول القائل: ما الذي يجعلك يا محمد إبراهيم، تُشغل نفسك وتحمِّل أهلك هذا العناء، لكنّ قضية القدس والمسجد الأقصى هي قضية عشق لا يعرف طعمها إلا من عاشها، لذلك لا لوم على محمد ولا أمه، ولا على أبيه، في كونهم عانوا ولا يزالون، لأنّ ابنهم يدفع ضريبة الشرف، في القدس والمسجد الأقصى المبارك، ولن يتخلّى الفلسطينيون من عشاق المسجد الأقصى المبارك عن الأسير المعتقل محمد إبراهيم".
وعقَّبت والدة الأسير محمد إبراهيم قائلةً إنَّها تنتظر ابنها على أحر من الجمر، وأنّ المحامي طمأنها أن ابنها بخير، وهي تنتظره أن يدخل بيته محرَّرًا وحُرًّا كريمًا بين أبناء شعبه وعائلته وأبناء بلدته، لا سيما أنَّ هناك صعوبة كبيرة بالنسبة لعائلته للسفر إلى المعتقل في بئر السبع.

في شهر آذار: سحر النتشة أُمٌّ ترابط في الأقصى
رغم التضييق والقمع الممارَس ضدّ المقدسيين إلا أنَّهم يواصلون الصمود والتصدي والحفاظ على المعالم الدينية في القدس وإنقاذ المسجد الأقصى من براثن الإسرائيليين، ولا سيما خلال الزيارات التي تنظِّمها المؤسسة الإسرائيلية للأجانب الذي يأتون فرادًا أو جماعات، لزيارة القدس، والتعرُّف على جميع مناحي المدينة، حيثُ يسعى الإسرائيليون لإقناع السائحين من الغرب أنّ المسجد الأقصى هو معلَمٌ يهودي.
وإذا كانت الصلة الدينية بين المُصَلين والمسجد الأقصى المبارك عميقة، فإنّ هناك أيضًا صلة قوية تجمع المقدسية سحر النتشة مع رفيقاتها في درب الرباط مِن أجل المسجد الأقصى المبارك، وهي التي اعتُقِلَت عدة مرات، وتعرَّضت للحبس الفعلي والانفرادي والمنزلي والاعتداء عليها في منزلها على خلفية رباطها في الأقصى، ولكنَّها ظلَّت تُصرُّ على حماية المسجد الأقصى بالجسد أو باليد أو بالدعاء على المعتدين.
وقد تمَّ مؤخّراً إصدار قرار اعتقال بحقّها بزعم نشرها منشورات تحريضية على "الفيسبوك"، وإعادة فتح ملف قضية اتهامها بمحاولة منع عضو الكنيست "شولي معلم" من الصعود إلى الطابق العلوي في مسجد الأقصى، فيما رأت النتشة أنَّ تصرُّف معلم كان فيه استفزازٌ واضح للمسلمين.
وفي حديث حصري مع المرابطة المقدسية "سحر النتشة"، خصَّت به مجلة "القدس" قالت تعقيباً على اعتقالها: "استندت النيابة إلى تُهَم جاهزة بينها منشوراتي على الفيسبوك، واستمرَّت المؤسسة الإسرائيلية بملاحقتنا أنا ونساء أخريات لمنعنا من الصلاة، وتعليم القرآن الكريم، والرباط في المسجد الأقصى المبارك. وكان هدفي من تعليم الفتيات المرابطات، التعمُّق بالدين الحنيف، وهي رسالة إلى جميع أهالي القدس ألّا يتخلوا عن الرباط في المسجد الأقصى، رغم الملاحقات الشديدة التي يتعرّض لها المقدسيون، فأنا لن أبتعد عن القدس والمسجد الأقصى حتى لو اعتُقِلتُ، لأنَّ الأقصى يسكن داخلي وروحي معلّقة به".
وكان قد صدر مؤخّرًا قرار بإدانة النتشة وحبسها فعلياً لثلاثة أشهر، وجاء في تعقيبها: "وجّه المحققون إليَّ تهمًا عدة منها التحريض على موقع التواصل الاجتماعي "الفيسبوك" بوضع مشاركات اعتُبِرت تحريضيّة عن الشهداء حين كتبت: (الشهيد يمشي على الأرض)، ووضعتُ صورة لعمليات طعن ودهس وإلقاء حجارة"، إلا أنَّ سبب الاعتقال الأساسي بعيد عن الفيسبوك، وفق النتشة، وبصريح العبارة أكدّ الدفاع أنّ ملاحقة النتشة سببه "وجودها في المسجد الأقصى".
وتضيف: "بدأ ارتباطي بالأقصى في حلقات العِلم العام 2011. ففي السنة الأولى والثانية تعلَّمتُ التجويد، وحصلت على شهادتَين في ذلك، واستمرَّ تواجدي في الأقصى خمس سنوات تعلَّقتُ خلالها أكثر وأكثر بالقرآن الكريم، وكنتُ أذهبُ للصلاة منذ الصباح الباكر وأعود للمنزل بنشاط وحيوية، وكان للأقصى انعكاس إيجابي على منزلي وأولادي، وكنتُ أستمدُّ القوة من الأقصى فهو بركة في وقتي وأولادي".

اعتقالات وتضييقات
حول أبرز ما تعرّضت له من مضايقات واعتقالات تقول سحر النتشة: "اعتُقِلتُ في إحدى المرات من باب المجلس (أحد أبواب الأقصى)، وأُفرِج عني بشرط الإبعاد عن الأقصى لمدة أسبوعين، كما اعتُقِلتُ من داخل المسجد الأقصى بعد الاعتداء عليَّ بالضرب، وأفُرِج عني بعد تدخُل الأوقاف الإسلامية شرط الإبعاد شهرين عن الأقصى.
وضمن محاولات منعي من الوجود في الأقصى، تمَّ إدراج اسمي في أواخر العام 2015 ضمن "القائمة السوداء"، التي أصدرها قائد الشرطة لمنع عدد من الأشخاص من الدخول إلى الأقصى، وعندما مُنِعت خلال محاولتي الدخول للأقصى بحجة أني ضمن القائمة السوداء، بكيتُ بشدة وكأني فقدتُ شخصًا عزيزًا، وأنا محرومة من الدخول إلى الأقصى مدة عام وشهرين".
أمّا المدّة الأطول والأصعب من الاعتقال على السيدة النتشة فكانت الاعتقال والعزل الانفرادي مدة 11 يوماً، بتاريخ 21-3-2015 بالقرب من باب حطة، حيث تعرّضَت للتحقيق 6 مرات وتناوب على ذلك ثمانية محققين، وتنقَّلت من سجن الرملة إلى سجن المسكوبيةّ بسيارة البوسطة – والبوسطة هو مسار يتم نقل الأسيرات عبره، ويُشار إلى أنَّ المقاعد في هذه "البوسطة" مصنوعة من الباطون، الأمر الذي يمس بحقوق الإنسان حيثُ يتم التعامل مع الأسرى والأسيرات وكأنهم ليسوا بشرًا- وهذا المسار من أصعب المسارات التي يمكن أن يتم تحمُّلها من قِبَل الأسرى والأسيرات، وعن ذلك تقول النتشة: "تُعدُّ البوسطة مأساةً بحد ذاتها، بسبب منع شرب الماء أو الذهاب إلى دورة المياه، عدا عن القيود بالأيدي والأقدام طوال الوقت ويستمر ذلك لساعات طويلة".
وتضيف: "بسبب ذلك مررتُ بظروف صعبة، فلم أشرب الماء ليومين، بينما كان النوم في الغرفة صعباً جدًا بسبب الروائح العفنة والأوساخ، لا سيما أنَّ داخل الغرفة حماماً مُتَّسخاً بفعل القاذورات وعظام الدجاج، لكنَّني أخذتُ قوّتي من القرآن الكريم الذي لم أتركه. وخلال اعتقالي تمَّت مداهمة المنزل ومصادرة الأجهزة والهواتف، وتركَّز التحقيق على الصُّوَر التي أقوم بمشاركتها والوسوم عليها على صفحة الفيسبوك، كما تمَّ التحقيق مع نساء أُخريات".
أمّا عن تجربتها مع الحبس المنزلي، فتقول: "يُعدُّ الحبس المنزلي تدميراً للوضع النفسي، وكأنَّك تعيش في عالم آخر، ففي إحدى المرّات خرجتُ من المنزل إلى المحكمة، فشعرتُ بحزن شديد وبالوحدة والغربة، وأنا في المدينة. لم أتمكَّن من الذهاب إلى الطبيب للعلاج، ولم أتمكَّن من لقاء ابنتي التي أنجبت حديثًا أو حتى الذهاب معها إلى المستشفى وقت إنجابها، وحين مرض زوجي ونُقِل إلى المستشفى لم أتمكَّن من الذهاب معه أو زيارته والعناية به خلال مرضه. إنَّ الحبس المنزلي في الحقيقة ليس للشخص فقط، وإنَّما تبعاته تطال الأسرة بكاملها".

الحبس الفعلي
تستعد النتشة اليوم لقضاء مدة 3 أشهر في الحبس الفعلي، وهي فترة تعتبرها من أصعب فترات حياتها، لأنَّها ستترك عائلتها التي تحتاج رعاية واهتماماً خلفها، وستبُعَد عن الأقصى المبارك.
وتعقّب النتشة على ذلك قائلة: "سأتركُ بيتي وزوجي المريض، وأترك الأولاد، وأكثر ما سأفتقده هو قراءة القرآن الكريم والتعمُّق في الروحانيات داخل الأقصى". وأوضحت النتشة أنَّ إبعادها وملاحقة حلقات العِلم التي كانت تُعقَد في المسجد الأقصى أدَّى إلى تفكُّك "أسرتها" الثانية، لأنَّها تعتبر نفسها مع أخواتها المشاركات في حلقات العِلم أسرةً واحدةً، هدفها تعلُّم القرآن والتجويد والصلاة في الأقصى.
ورغم تعرُّضها للاعتقال والحبس المنزلي وصولاً إلى السجن الفعلي، عدا عن التهديدات والتُّهَم، والتضييق على زوجها المريض بحرمانه من "تأمين العجز" كونه يعاني من تلف في الأعصاب، إلّا أنَّ معنويات النتشة عالية، وقد أوصت أبناءها بالاهتمام بوالدهم، والتماسك في ظل غيابها، علماً أنَّ لديها ست بنات وابناً وحيداً.
هذا ولم تكتفِ المحكمة باعتقالها لثلاث أشهر، وإنما أُعيد فتح ملف "الاعتداء على عضو الكنيست عن حزب البيت اليهودي شولي معلم"، ومن المفترض أن تُعرَض على المحكمة مجدّدًا، ويعود هذا الملف لحادثة تصدي مجموعة من المصلين لعضو الكنيست لدى صعودها إلى ساحة قبّة الصخرة بالهتاف، وعلى اثر ذلك تمّ اعتقال النتشة فعليًا.
لا يخفى على أحدٍ أنّ العلاقة بين اليهود والعرب في القدس هي علاقة معتدٍ ومصلين، وما بين هذين الأمرَين، يبقّى المسجد الأقصى شامخًا صامدًا، مُتحدِّيًا للسياسات الهادفة إلى تفريغ المقدسيين من بيوتهم ومن وطنهم، ويواصل المرابطون يومياً إثبات تمسُّكهم وحبّهم للمسجد الأقصى الذي أوصى النبي عليه الصلاة والسلام بحمايته.

تحقيق: غادة اسعد
خاص مجلة "القدس" العدد 335 اذار  2017