المراقب لمواقف الرئيس دونالد ترامب في القضايا الداخلية والخارجية، لاحظ إنها تحمل تشوش وإرباك وعدم تجانس وغياب المنطق في تراكيبها. فشعار "أميركا أولاً "، الذي أطلقه يوم التنصيب قبل شهر خلا، يتناقض مع العولمة، التي طرحها بوش الأب بعد انهيار نظام القطبين، ولا يستقيم مع مكانة الولايات المتحدة الدولية. ولا يتوافق مع قرار الرئيس الجديد نفسه تجاه المهاجرين وحملة الجنسية الأميركية من الدول الإسلامية والعربية والملونين عموما. فعن أي أميركا يتحدث صاحب الشعر الأصفر، وهو يعمل على إثارة الفتنة والعنصرية في أوساط الشعب الأميركي؟ وحتى قراره بعودة المصانع الأميركية للداخل الأميركي يتصادم مع المصالح الحيوية الأميركية في دول العالم الحليفة لأميركا، وحتى مع أصحاب الشركات الأميركية الأم. لأنها لم تقم مصانع هنا أو هناك نتاج جهل أو قراءة متسرعة لمصالحها، إنما نتاج قراءة متأنية وبما يخدم الإمبراطورية الأميركية وأباطرة المال فيها. وكيف يريد "أميركا أولاً "، وهو يدخل في مواجهة مع مؤسسات الدولة العميقة ومرتكزات النظام السياسي الأميركي؟

وحدث ولا حرج في العلاقة مع دول الجوار وحلفاء أميركا التاريخيين، أولا التصادم مع المكسيك، واللجوء لسياسة لي الذراع وفرض الإملاءات والضرائب على شعب ودولة بمكانة المكسيك لبناء جدار لم تستشار به القيادة المكسيكية، ولم تعلم به إلا عبر وسائل الإعلام؟ ثم إلغاء اتفاقية المحيط الهادي دون طرح المسألة مع الدول المعنية، واتخاذ الموقف بشكل تعسفي كردة فعل نزقة على تحدي قرارات الإدارة الأميركية السابقة (إدارة أوباما). ولم يكن نصيب حلف الناتو واوروبا أفضل حالا لا في المجال الأمني ولا في المجال الاقتصادي ولا في أي من أشكال الشراكة التاريخية بين دول الغرب الرأسمالي. ولم يترك دولة من دول العالم باستثناء إسرائيل المارقة والخارجة على القانون من افتعال أزمة معها، وكان نصيب العرب كبيرا من حيث الإصرار على "تدفيعهم" نصف أرباحهم من النفط، ومصادرة ودائعهم وغيرها من المواقف المتناقضة مع طبيعة العلاقات التحالفية مع العرب عموماً ودول الخليج خصوصاً. ورغم انه حاول تلطيف مواقفه نسبيا في الآونة الأخيرة، غير أن ركائز سياساته وقراراته لا تستقيم ولا تقبل القسمة على المنطق الأميركي التاريخي، ولا مع منطق العلاقات الدولية.

 ونفس الشيء جاءت مواقفه متناقضة مع الرؤية الأميركية للسلام على المسار الفلسطيني الإسرائيلي. الثابت لديه الدفاع الأعمى عن دولة التطهير العرقي الإسرائيلي. لكن رؤيته لعملية السلام مضطربة ومشوشة وغير محددة المعالم. فهو لم يتمسك بخيار الدولتين على حدود الرابع من حزيران عم 1967، ولا هو مع الدولة الواحدة أو بتعبير آخر، ليس ضدها إذا اتفق الطرفان؟! كيف ؟ وعلى أي أساس سيتفق الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي، والقيادة المتطرفة في إسرائيل تعلن على الملأ رفضها الانسحاب من أراضي دولة فلسطين المحتلة، وتعلن مواصلة هيمنتها وسيطرتها وسيادتها على الأرض الفلسطينية المحتلة، وتصر على الوجود الأمني الإسرائيلي في الغور وكل الأرض الفلسطينية؟ وهناك الكثير من المواقف، التي أعلنت عنها إدارة ترامب بهذا الشأن تحمل عدم الوضوح، ويسيطر عليها الغموض.

مع ذلك القراءة اللامنطقية لإدارة ترامب وسياساتها، تشير إلى إنها تحمل في طياتها المتناقضة انفراجاً سياسياً في كل الملفات. وستضعف مكانتها الدولية والداخلية، وخيار "أميركا أولاً " سيفشل في ظل سياسته الحالية. وبالتالي الالتباس والغموض في سياسة الإدارة الجديدة من حيث الشكل سيخلق شروطا جديدة لا تخدم أميركا، وسيعمق تصادمها مع الواقع والمنطق السياسي والدبلوماسي الأميركي والدولي الناتج عن القرارات والسياسات الأميركية الانفعالية. كما أن ذلك سيكسر التابوهات القائمة، وبخلق ميكانيزمات جديدة أكثر فعالية، لان رهان أميركا ببقاء العالم في حالة المتلقي، هو رهان ساذج وخاسر، وبالتالي العالم يسير في حالة تحول وتغير دراماتيكي، لا يجوز قراءة مركباته كما هو الآن. ونفس الشيء ينطبق على حليفتها الإستراتيجية إسرائيل، التي ستخسر أميركا، وأوروبا، والعرب، في حال افترضت بقاء شروط الواقع على ما هي عليه، وواصلت جرائم حربها على السلام وخيار حل الدولتين على حدود الرابع من حزيران عام 1967. والمستقبل المنظور سيحمل الجواب والبرهان.