خاص مجلة القدس العدد 332 تشرين ثاني 2016
تحقيق: د.سامي إبراهيم


حين تدخل إلى مخيّم شاتيلا تستطيع بجولة قصيرة أن ترى كيف يعيش اللاجئون الفلسطينيون في لبنان تحت وطأة ظروف اجتماعية وصحية صعبة، لا بل هم الأكثر معاناة، والأوضح هامشية، والأقل اندماجاً في المجتمع المضيف، إذ انهم محرومون من الحقوق المدنية الأساسية ومن الحقوق التعليمية والصحية والاجتماعية وحتى من العيش في بيئة صحية.
فالكثافة السكانية المتزايدة في هذا المخيّم الصغير الذي لا تزيد مساحته على 400م طولاً و300م عرضاً خاصة بعد نزوح الفلسطينيين من مخيمات سوريا، حوَّلت الشوارع إلى أزقّة ضيّقة حيث ضاقت المسافات بين المنازل واختفت الساحات، وأصبح التمدُّد السكاني عامودياً بعد أن كان أُفقيًا، وأصبحت معظم المباني تتألّف من ست وسبع طبقات بعد أن كانت تتألَّف من طبقتَين وثلاث.

إذاً المشكلة في مخيّم شاتيلا معقّدة وليست بسيطة، فهي تبدأ من حرمان الفلسطينيين من سُبُل العيش الإنسانية العادية بكافة متطلباتها، فمشكلة الطوفان في فصل الشتاء، وصولاً إلى مشكلات مياه الشفة والبنية التحتية.
أمّا المشكلة الأخطر فهي مشكلة الكهرباء التي باتت تشكّل هاجساً يؤرق حياة اللاجئين وينغص عيشهم، حيث أنَّ التمديدات العشوائية بدأت تودي بحياة الكثيرين من سكان المخيم نتيجة الصعق الكهربائي. أضف إلى ذلك انتشار تُجَّار الكهرباء الذين يبيعون الكهرباء وعدم محاسبتهم من قِبَل القيّمين على الأمن في المخيم.
هذا الوضع المتردي والتسيُّب الأمني وعدم قيام الفصائل بدورها بفرض الأمن وحماية المواطنين داخل المخيّم، وعدم مكافحة انتشار الآفات الاجتماعية الأخرى مثل المخدرات، أوجد شرخاً كبيراً، مما زاد نقمة الأهالي على الفصائل.
"لعنَ الله كلَّ مَن يتاجر بأمن المواطنين"، هي صرخةٌ أجمع عليها عددٌ من سكان مخيّم شاتيلا للتعبير عن غضبهم لما وصلت اليه الأمور في مخيّمهم. "وسام شاكر" الشاب الأربعيني والذي يملك مقهى في مخيّم شاتيلا، لا يتردّد في تحميل الفصائل واللجان الشعبية مسؤولية موت سكان المخيم صعقاً بالكهرباء لتقاعسهم عن أداء دورهم في صيانة وتأهيل البنى التحتية في المخيّم.
بالنسبة لوسام وعدد من أهالي المخيّم وصلت الأمور إلى حدٍّ لا يطاق وهي تُنبئ بانفجار ومواجهة بين سكان المخيم وبعض الفصائل الفلسطينية ما لم تعالَج الأمور في أقرب وقت. ويرى "وسام" أنَّ أخطر ما تقوم به هذه الفصائل هو المتاجرة بالدم الفلسطيني وعن ذلك يقول: "بعض الفصائل تتاجر بالدم الفلسطيني، ولكن أن تصل الأمور إلى المتاجرة بالأمن الاجتماعي لسكان المخيّم فهو عمل جبان وسيؤدي إلى مواجهة بيننا وبين هذه الفصائل".

حركة "فتح" تدين
كلام وسام يؤيّده ممثّل حركة "فتح" في مخيّم شاتيلا "كاظم حسن" الذي يرى أنَّ الهدف الأساسي لعمل الفصائل في لبنان هو الأمن الاجتماعي قبل العمل الأمني او العسكري، ولكن مع كل ذلك فقد حقّقت الفصائل الفلسطينية صفراً على المستوى الاجتماعي الأمر الذي أدّى إلى تراجع البنى التحتية في المخيم وظهور  بعض حالات تعاطي المخدرات والمافيات. ولا يُخفي "حسن" أن الطامّة الكبرى التي يعيشها المخيم هي مشكلة الكهرباء، إذ لا يوجد أي مكان على وجه الارض تجتمع فيه شبكتا الكهرباء والماء في نفس المكان إلّا في المخيمات الفلسطينية.
ويخلي "حسن" مسؤوليته كممثِّل لحركة "فتح" في مخيّم شاتيلا من الحالة التي وصلت إليها شبكتا المياه والكهرباء على اعتبار أنهما من مسؤولية لجنة التحالف، ولا يتردّد في اتهام بعض المستفيدين، من دون أن يُسمّيهم، بالوقوف وراء هذا التدهور الحاصل. ويشرح بطريقة علمية الحلول التي قدَّمتها حركة "فتح" لحل مشكلة الكهرباء في المخيم ومنها التوزيع العادل للكهرباء منعاً للتعدي على الشبكة العامة والفصل التام بين شبكتَي الكهرباء والماء وفقاً لخطة وضعتها اللجان المتخصّصة ولكنها قوبلت بالرفض من قِبَل البعض.
ويؤكّد "حسن" أنَّ استمرار الوضع على ما هو عليه سيؤدي إلى مواجهة بين سكان المخيم وهؤلاء الاشخاص إذ لا يعقل أن يخسر المخيم خيرة شبابه نتيجةً للتسيُّب الحاصل في امدادات شبكتي الكهرباء والماء.

حوادث متكرّرة
شهد المخيم في الأعوام الثلاثة الماضية عدداً من الحوادث الناجمة عن الصعق الكهربائي ما أودى بحياة ما يزيد عن ثمانية أشخاص بحسب التقديرات غير الرسمية، من ضمنها ثلاث حالات في الشهرين الماضيين.
"ثائر عيسى" (41 عاماً) هو والد لشاب قضى منذ شهرين صعقاً وهو يحاول إصلاح ما أفسدَته بعض الايادي في المخيم، هول الفاجعة لايزال بادياً على "ثائر" الذي يعتبر أن اكثر ما يؤلمه كوالد هو خسارة ولده من دون أن يُحاسَب أحدٌ على هذه الجريمة. ويستذكر "ثائر" ولده "علي"- الذي رفض أن يكتب اسمه كميت- نهار الحادثة بكثير من الحسرة والألم، فقد كان ولده يحاول اصلاح قسطل للمياه عندما صعقته الكهرباء، في الوقت الذي كانت تتحضّر فيه العائلة في نفس اليوم لعقد قران ولدها. هرع الجميع بجسده الطاهر كما يصف "ثائر" إلى المستشفى لكن الأوان كان قد فات، والفاجعة قد وقعت.
بدمعة يصف "ثائر" علاقة الصداقة التي ربطته بولده وكيف كان الحلم أن يكبرا سوياً ويشيخا معاً، لكن الحلم تبخّر نتيجةً لإهمال البعض في المخيم. ويصف ثائر حالة الوالدة بالفاجعة الاكبر فهي لم تصدق حتى اللحظة فقدانها لولدها وماتزال تناديه علّه يجيبها.
سخرية القدر في المخيم أقوى من أن توصف بكلمات، فذاك الشاب الفقيد كان قد أسعف قبل فترة وجيزة شخصاً يُدعى إياد محمد زعرورة (41 عاماً) كان توفي هو الآخر نتيجة للصعق، ولم يجد من يسعفه إلا ذلك الشاب بدون أن يدرك أن الموت كان يختبره ويترصّد له.
يصف "محمد زعرورة" (50 عاماً) كيف قضى ابن أخيه نتيجةً للصعق الكهربائي، ولم يتمكّن أحدٌ من إسعافه لفترة طويلة نتيجة لوقوعه في منطقة يصعب الوصول اليها. ولا يتردَّد في المطالبة بمحاسبة المعنيين عن هذه الاخطاء المتكررة التي ما كانت لتودي بحياة الابرياء لولا وجود تسيُّبٍ وإهمالٍ في صيانة شبكتَي الماء والكهرباء.
ويؤكد "محمد زعرورة" أنَّ التسيُّب الحاصل يؤثّر على النسيج الاجتماعي في مخيّم شاتيلا على المدى البعيد على اعتبار أن حالة ابن اخيه خير مثالٍ على تفكُّك العائلة التي خسرت معيلها الوحيد نتيجة لهذه الاخطاء، فإياد كان يعاني من وضع اجتماعي متردٍّ وهو على قيد الحياة وكان يعمل ليلاً ونهاراً ليعيل والدته وعائلته، أمَّا اليوم وبعد فقدانه أصبح الوضع أصعب على عائلته.
حالة إياد مشابهة لقصص تتردَّد على مسامعك وأنت تتجوّل في المخيم، والذي يتراءى لك أن شبح الموت يخيّم فوق الازقة متربّصاً بضحيته الجديدة، وهو ما حصل مؤخّراً مع الشاب (محمد غنايمة) الذي لم يبلغ السادسة عشرة من العمر، فتوفي هو الآخر نتيجةً لصعقة كهربائية، لكن العائلة التي كانت ما تزال تحت وقع الصدمة رفضت الإدلاء بأيّ تصريح.
اللجنة الشعبية غير مسؤولة ومهمّشة
كلُّ ما تقدَّم قادنا إلى مقابلة مسؤول اللجنة الشعبية التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية في المخيّم "زياد حمّو" الذي رفض أن تقع المسؤولية فيما آلت اليه الأمور على اللجنة الشعبية على اعتبار أنَّ اللجنة الشعبية التابعة للمنظمة رفعت يدها عن موضوع الكهرباء نتيجةً للضغوط التي كانت تتعرّض لها. ويشدِّد "حمّو" على أن بعض المتنفِّذين في المخيم هم المسؤولون عن تردي وضع الكهرباء في المخيم لمنافعهم الشخصية على اعتبار أن السكان لا يتعدون على شبكة الكهرباء، وإنما هؤلاء المتنفّذون هم مَن يقومون بذلك.
ولا يخفي "حمّو" أنَّ الانقسام السياسي الحاصل على الساحة الفلسطينية أثّر سلباً على عمل اللجنة الشعبية التابعة للمنظمة كون بعض التنظيمات لا تتعاون معها ما يُصعّب عملية إيجاد حلول للتعديات الحاصلة على شبكات الكهرباء. ويهاجم "حمّو" مَن يصفهم بمافيا الكهرباء التي تبيع الكهرباء إلى خارج المخيم وهم كما يقول معروفون بالأسماء.

حلول من رحم المعاناة
كلامُ مسؤول اللجنة الشعبية يتطابق مع كلام "وسام شاكر" الذي هاجم وغيره من سكان المخيم مافيا الكهرباء التي تتلطّى خلف بعض الجهات، وهو يرى أنَّ المسؤولية تقع على عاتق السكان الذين يسكتون عن هذه الممارسات الشاذة التي أوصلت الأمور إلى ما لا تُحمد عقباه. وقد أطلق "حسام شاكر" وعدد من شباب المخيم مبادرةً لتحسين شبكة الكهرباء في شارعهم، وحوَّلوا الزقاق الذي يعيشون فيه إلى جنة صغيرة يتدلّى منها عدد من المزهريات الوردية بعد أن كانت تتدلّى منها غابة من أسلاك الكهرباء وقساطل الماء.