خاص مجلة "القدس" العدد 329 اب 2016
تحقيق: غادة اسعد

النقب، البقعةُ الأبعد الـمُسمّاة منطقة الجنوب، والقريبة إلى الضفة الغربية، أصبحت مساحات شاسعة صفراء في هذه الأيام، بسبب الحر الشديد والجفاف. حياةٌ ليست بسهلة، رحلةٌ طويلة للوصول إلى النقب، مدَّتها ساعتان وأكثر، لكنّها منطقة جميلة، تلسعنا حرارة الشمس القوية في هذه الأيام، ومن شدة الحرارة نرى كل شيءٍ أصفر، مُلتهِباً، لكن في المكان أناسٌ طيّبون كرماء، رغم شظف العيش، وانقطاع الكهرباء والماء، مع ذلك كل شيءٍ مستمرٌ في الحياة.
وليست صدفةً أو محضَ فِكرة أن تسعى المؤسَّسة الإسرائيلية في منطقة النقب، جنوب إسرائيل، لتهجير السكان وترحيلهم من أرضهم، هادفةً لمنح اليهود اللاجئين طوال الوقت إلى إسرائيل حياةً جميلة ينعمون بها، حيثُ تكون المزرعة أمام البيت، وتكون الحياة أهنأ ما يكون، بينما يغدو النقباوي جارًا بعيدًا، مسلوبَ الأرضِ والقُدرةِ على التحرُّك والعمل، والبناء. والأنكى مِن هذا أنَّ البدوي طوال حياته يعتاش على تربية الأغنام، الأمر الذي يتطلَّب تنقُّلاً في صحراء النقب، لرعي الأغنام، والعودةِ بعد رحلةٍ قصيرة إلى البيت، علّه يكون المأمن والحامي للبقاء، لكن عبثًا تسعى الدولة لتهجير المواطنين العرب، سكان النقب الأصليين، والذين اعترفت الدولة العثمانية وحتى الانجليز، أنَّ لهم الحق في ملكية الأراضي، حتى لو لم تتوفّر بأيديهم، "الكوشان"، أو "الطابو".
وعن استهداف البدو في النقب كتبَ الباحث د.أحمد أمارة تحليلاً لما يجري للنقب، ومـمّا جاء في دراسته: "لربّما كان من الأصحّ استعمال المصطلح "مخطّطات" بدل "مخطّط" عند الحديث عمّا يدور في النقب بشأن قضيّة حقوق الملكيّة للأرض وما يُعرَف بمسألة القرى غير المعترَف بها، والتي يبلغ عددها اليوم نحو 35 قرية، وما يُعرَف بقانون برافر- الذي يؤطِّر مخطط برافر-بيجين بقانون عبر القراءة الأولى في الكنيست بتاريخ 24/6/2013، بأغلبية 43 ضدّ 40- هو مخططٌ وليد عدة تقارير ومخطّطات ومحاولات سابقة لحلّ "مشكلة" النقب، كما تتعامل معها وتُسمّيها الحكومة الإسرائيليّة، وتستعرض هذه الورقة القصيرة السياق والمحاولات السابقة التي أوصلت إلى القانون (أو اقتراح القانون) الحاليّ. وتناقش الورقة تفاصيل ومضمون اقتراح القانون.
تُعرِّف حكومة إسرائيل أراضي النقب الـمُقامة عليها قرى عربيّة بدويّة غير معترَف بها كـ"أراضٍ موات"، وبذلك تُعدُّ أراضي حكوميّة. هذا التعريف يحوِّل عرب النقب القاطنين في تلك البلدات إلى "دخلاء ومخالفين للقانون". وقد حاولت الحكومة منذ سبعينيات القرن الماضي ولغاية المخطَّط الأخير حلَّ "قضية النقب" بمسار سياسيّ إداريّ عن طريق تشكيل عشرات اللجان المختلفة، بدءًا بلجنة "ألبك"، من العام 1975. ويبدو أنَّ هنالك توجُّهًا وتعاملاً حكوميَّين جادَين وحازمَين أكثر تجاه النقب، ناتجَين عن عدة أسباب وتطورات يمكن الإشارة إليها كمحفّز لهذا التوجه. من هذه الأسباب ازدياد المباني "غير القانونية" خلال السنين لتقفز من نحو ألفَي مبنى في العام 1966 إلى 5,944 في العام 1986، وإلى 42,500 في العام 2007، وكذلك ازدياد عدد سكّان النقب العرب وقُراهم بدون أن توفِّر البلدات السبع المعترف بها الحلّ المرجوّ، إضافة إلى نقدٍ صدرَ من بعض الأجهزة الحكوميّة تجاه سياسات الحكومة".

قرية العراقيب
تقع في صحراء النقب شمال مدينة بئر السبع وتُعدُّ واحدة من خمسٍ وأربعين قريّة عربية في النقب غير معترف بها، تعرَّضت أكثر من مائة مرّة للهدم بشكلٍ كامل، مِن قبل الجرافات الإسرائيلية بحجة البناء بدون ترخيص، ولكن السكان يعيدون بناءها من جديد في كُلِ مرَّةٍ.
ويبدو الرقم 101 غير كافٍ لردع الجرافات الإسرائيلية عن اقتحام خيام العراقيب، حيثُ تشير مصادر إعلامية أنه سيتم تدمير قرية العراقيب وتهجير سكانها ومحو أثرها عن بِكرة أبيها، مما ينوّه إلى ظهور نوعٍ جديد من الممارسات التنكيلية والقمعية غير المسبوقة.

مطلوب الاعتراف بحقوق أهالي النقب!
في حديث لمجلة "القدس" مع المحاضر الجامعي د.ثابت أبو راس حول ما يجري في النقب قال: "أعتقدُ أنَّ النقب هي المنطقة المهملة في وجداننا وللأسف هي منطقة تاريخيًا كانت عامرة ومهمّة جدًا. النقب كانت نقطة التواصل بين مصر- أرض الكنانة وبلاد الشام- وعرفَت حركةً دائمةً على مدار مئات السنين. هذه المنطقة عربية وفيها عدد كبير من المواطنين العرب، حتى أيام النكبة قبل 70 عامًا، عندما أتت دولة إسرائيل وتمّ تهجير نحو 90 ألف نسمة هم عرب النقب إلى الأردن، وإلى الضفة الغربية وقطاع غزة وبقي من مئة ألف شخص فقط عشرة آلاف شخص يسكنون في هذه المنطقة، أمَّا الآن فأصبحوا 230 ألف عربي بدوي نقباوي يقيمون في عشرات القرى غير المعترف بها منذ العام 1948، بينما اعترفت إسرائيل بقسم منها بعد معركة من أجل تثبيت حقوق الناس في الأراضي، والقضية الأساسية هي قضية ملكية الأرض، فإسرائيل لا تعترف بملكية الأرض، بينما المخطَّطات السابقة لدولة إسرائيل لم تنجح بتحقيق معادلة السيطرة التامّة على أهالي النقب، فطالما لم تُجرِ تصحيحًا يوفِّر معادلة تعويض مقبولة على المدّعين من أهالي النقب، فإنّ إسرائيل ستبقى تُصارِع أهالي النقب الذين لا ييأسون أبدًا.
وفي الوقت الذي تصارع فيه إسرائيل كي تنتصر على أهالي النقب، فإنّ عرب النقب يقولون بصوتٍ عالٍ (هنا مقابرنا، هنا أشجارنا حتى لو لم يكن لدينا أوراق ثبوتية)، لكن في الحقيقة لدينا مستندات عثمانية، وهذا يعني اعترافاً بوجودنا.
بينما تُصر إسرائيل على عدم الاعتراف ببدو النقب الراسخين فوق أرضهم، خاصةً أنّ العثمانيين كانوا في المنطقة واعترفوا بالأرض، كما توطّن البريطانيون لبعض الوقت وهم أيضًا اعترفوا بالأرض، إلا أنَّ إسرائيل لا تعترف بملكية المواطنين على هذه الأرض".

تعزيز صمود أهل النقب بتوظيف الوسائل النضالية الفعّالة
يقول الباحث د.ثابت أبو راس: "أولاً: إنّ الصمود فوق أرض النقب مستمر، وهذا يتطلَّب أيضًا تكاتف جميع شرائح المجتمع ووقفةً جماهيرية مع أهلنا في النقب.
ثانيًا: نحنُ بحاجة لوقفة لنعرفَ ما يوجد في النقب. هذا الجزء الغالي من الوطن يساوي 50% تقريبًا من المنطقة الجغرافية، من فلسطين التاريخية، ويساوي 60% من مساحة الأرض، ونحنُ نتحدّث عن احتياطي أرضٍ عند الجماهير العربية موجود بالأساس في النقب".
ويؤكّد أنَّ العرب في النقب يملكون فقط 3,3% من مساحة إسرائيل الجغرافيّة عدا عن النقب، مشيراً إلى أنَّ "إسرائيل تُريد محو الوجود العربي وإبعاد المواطنين عن النقب، لذلك فإنّ النقب هو الخط الدفاعي الأول عن كل الجماهير العربيّة". ويضيف "أذكرُ أنّه في العام 1976 عندما صرخَ الراحل توفيق زياد وقادَ هو ومواطنون آخرون يوم الأرض، رأينا أنَّ إضراب يوم الأرض شمل جميع البلاد وكان الحديث يدور عن محاولة مصادرة 20 ألف دونم في البطوف، والتكاتف منعَ المصادرة، والآن يدور الحديث عن مصادرة نحو 750 ألف دونم، وهي نفس النسبة التي يملكها جميع الفلسطينيين في الداخل، لهذا السبب من المهم التعاضُد والتضامُن مع عرب النقب والشعور أنّ قضيتهم قضية الجميع".
وينوِّه لوجود وسائل نضال مهمّة ولضرورة الاعتماد على هذه الوسائل للتأثير إيجابياً في كل ما يجري في قرى النقب، مضيفاً "وسائل النضال كثيرة، فهناك نضال برلماني، ونضال قضائي وتخطيط، لكن يبقى النضال الجماهيري على الأرض، ودعم صمود الأهل في العراقيب أهمَّها، ومن المهم أن نضع قضية النقب في رأس سلم أولوياتنا، وأن يقوم الطلّاب في الداخل بزيارة العراقيب".
ويعقِّب د.أبو راس على العلاقة بين الداخل الفلسطيني والنقب قائلاً: "تُعدُّ قضية النقب قضيةً تاريخية والحقيقة أنَّ العمل السياسي عند المواطنين العرب في الداخل كان طوال الوقت في الجليل، فيه كان الوعي السياسي وهو أمرٌ شرعي جدًا، لكن إذا كنا شعباً واحداً فيجب التعاضد، لنجدَ الطريق للتكاتف والتضامن وزيارة النقب والتعرُّف على قضايا النقب. فاليوم 18% من جماهير الداخل تسكن في النقب، ولكن أين نحنُ من هذه الجماهير؟ فمدينة رهط أصبحت المدينة الثانية بين المدن العربية بعد الناصرة، وخلال 10 سنوات ستكون رهط المدينة الأولى بينها، بسبب التكاثر السكاني الكبير وبسبب محاولة طرد سكان القرى غير المعترَف بها إلى مدينة رهط ومدن أخرى، فكيف لا نعرف شيئاً عن مدينتنا الأولى؟!".
من جهته يقول المحاضر الجامعي د.عواد أبو فريح: "هناك حاجة للنضال الجماهيري، إضافة إلى ضرورة التفكير في وسائل نضالية أخرى، وأن تكون قضية النقب في أولويات أبناء مجتمعنا، فنضالنا في العراقيب لا يتوقّف عند هذا الحد، بل هو يمتدُّ إلى نضالات كثيرة ليست في العراقيب فقط، وإنما في جميع المناطق في النقب، وفي الداخل أيضًا".
ويأمل د.أبو فريح أن تزداد نسبة الفلسطينيين المتضامنين مع أهالي النقب، ليس فقط بالكلام وإنّما بالوجود فوق الأرض، والنضال في مواجهة سياسة الهدم التي لا تتوقف.
ويضيف د.أبو فريح "من الضروري الاعتماد على الخطوات القانونية بدعمٍ من عشرات المحامين في مختلف الأُطر والجنسيات والقوميات موكّلين للدفاع عن أرضنا، وهذا الأمر مُكلف، ومهُلك في ظل الوضع الاقتصادي المتردي، مع ذلك فنحنُ متمسّكون بالأمل، سعيًا لإثبات ملكيتنا للأرض أمام المحكمة التي اعترفت بحقنا، ولكنّها تماطِل كي تضيّع الوقت وتشتِّت رغبتنا بتحقيق أهدافنا، وسنواصل النضال حتى انتزاع الاعتراف الكامل بملكيتنا على قرانا غير المعترَف بها".

الفلسطينيون يعوّلون على صمود أهل النقب وتحديداً العراقيب
عن واقع صمود الأهالي في النقب يقول عضو الكنيست طلب أبو عرار، ابن منطقة النقب: "نحنُ نعيش في دولة عنصرية متطرّفة ومع هذا نسجِّل صمودًا أسطوريًا، فأهلنا في العراقيب يتحدّثون عن الهدم قرابة المائة مرة، ولا ننسى أنهم قرابة المائة مرة أيضاً يعيدون بناء هذه القرى، ولم يتخلَّ أهالي النقب وخاصةً العراقيب عن حماية أرضهم، سعيًا لمنع الاقتلاع، بينما تسعى إسرائيل لبناء مستوطنات فوق أنقاض قرانا العربية، ونحنُ مستمرون في الوقوف إلى جانب أهلنا حتى يثبت أهلنا فوق أرضهم وقراهم".
ويضيف "الحل المطروح غير ممكن حاليًا، إذ إنّ الجهاز القضائي الإسرائيلي مُسخَّر لخدمة سياسة الحكومة، وهذا ما رأيناه في قضية أُم الحيران حيثُ أنّها وبشكلٍ واضح وعنصري أتاحت اقتلاع أُم الحيران لبناء مستوطنة حيران، ولم تُتِح المجال أمام الأهل ليبقوا في أرضهم، ونحنُ لم ولن نعوِّل على القضاء بقدر ما نعوّل على أهلنا ميدانيًا، وهذا ما نأمله ونرجوه".
بدوره يقول شيخ العراقيب صياح الطوّري، الذي عُرِف بصموده الأسطوري فوق أرض العراقيب، لمجلة "القدس": "مثل سائر الفلسطينيين الذين لم يهاجروا إلى هذه البلاد، نحنُ هنا باقون كوننا سكان هذه البلاد وموجودون منذ مئات السنين، لم نُهاجِر من بلاد لنسطوَ على بيوت الآخرين، نحنُ في وطننا، اليهود هم الذين هاجروا وجاؤوا إلى النقب والعراقيب، ولا يزال موتانا يدفنون في العراقيب، وهناك فلسطينيون من النقب مدفونون منذ العام 1914، أيام العثمانيين، والعراقيب ليست قرية جديدة، والمقابر شاهد حيٌّ على وجودنا قبل النكبة، وإذا أرادت دولة الاحتلال الحديث عن أوراق ثبوتية فإنّ العثمانيين اعترفوا بنا، فلماذا لا تعترف إسرائيل بحقوقنا وحقوق المواطنين الأصلانيين، بينما تستمر إسرائيل ببناء الشوارع وتطوير الدولة، لكنها أبدًا لا تريد الاعتراف بملكية عرب النقب لأراضيهم وقراهم غير المعترَف بها، ولا تزال تسعى إلى ترحيلنا جميعًا من أرضنا، وهذا لن يحصل طالما أنّ الإصرار والصمود هو الحل".
وتعقّب الناشطة النسوية هدى أبو عبيد: "حسب قانون دولة إسرائيل كلُّ بناء غير مرخَّص هو بناء غير قانوني، وردة الفعل الأولى التي تقوم بها الدولة هي الهدم، وهذا ما يحدث في العراقيب، ففي جميع القرى غير المعترَف بها، يصمد أهالي العراقيب، وهم مثالٌ يُحتذى به، إذ لا أحد يستطيع تحمُّلَ كميّة الهدم والبناء من جديد، إلا الصّامدون بكل معاني الصدق والإيمان بالأرض، صمود أهالي العراقيب رجالاً ونساءً وأطفالاً تأكيدٌ أنّ الفلسطينيين لا يتخلون عن أرضهم ولو بمال الدنيا، رغم الظروف الصعبة جدًا على العائلات".
وتلخيصًا نقتبس من بحث "المخطّطات لتوطين البدو في النقب" ما جاء في كلمة د.أحمد أمارة الذي قال: "على الرغم من محاولات الضغط العديدة ومنها عدم توفير الخدمات بالقرى أو هدم البيوت وتدمير الزرع، فإنّ الدولة عاجزة عن تحقيق هدفها بتركيع عرب النقب والسيطرة الأكبر على أراضيهم. لذا على الرغم من جديّة الدولة في شأن مشاريعها، فإنّها ستفشل إذا لم يجرِ تصحيحها لتوفِّر معادلة مقبولة على المدّعين (المتوجهين للقضاء، للبت في قضية ملكيتهم لأرضهم)، وسيستغرق تنفيذ مخططات الحكومة عقدًا من الزمن، وستتغيّر في ظلّه ديموغرافية وجغرافية النقب على نحوٍ سيتطلّب التعامل من جديد مع القضيّة واتخاذ سياسات تتلاءم مع الوضع المتغيِّر".