يلوح لي أنَّ المشروع الوطني الفلسطيني الذي دشنته حركة "فتح" في سنة 1965 يكاد أن ينحسر، أو هو في طريقه إلى الانحسار في ما لو استمرت الأحوال الفلسطينية على ما هي عليه. وأكثر ما نخشاه، جراء الوقائع الانقسامية الناشبة في الحياة السياسية الفلسطينية، أن يندثر ذلك المشروع، وهذه المرة لا على أيدي الاحتلال الإسرائيلي، بل بأيدي بعض الجماعات الفلسطينية التي لم تتوقف عن هواية الشقاق والانشقاق على التيار الرئيس في الحركة الوطنية، منذ حركة صبري البنا (أبو نضال) في سنة 1974، فمنشقي سنة 1983، ثم لاحقاً الانشطار الذي أحدثته حركة حماس في 14/6/2007، وبهذه النتيجة القاسية والماثلة أمام أعيننا يمكننا المجازفة بالقول إن الحد الأدنى للمطالب الفلسطينية، أي الدولة المستقلة على أراضي 1967 وحق عودة اللاجئين والقدس عاصمة للدولة المستقلة، بات مستحيلاً في خضم استشراء التفسخ السياسي والاجتماعي والثقافي.
ومن علائم انحسار المشروع الوطني الفلسطيني التمادي غير المسبوق في الاحتراب الداخلي، وفي الخروج على بديهيات العمل السياسي، وعلى الشرعية السياسية للسلطة الوطنية الفلسطينية، والانحطاط المروِّع في لغة التخاطب بين الجماعات السياسية المنفلتة من عقالها، والتي لا عقل سياسياً لها في الأساس. وهذا الأمر يشير، بقوة، إلى موت التفكير وانتصار الغوغائية بصورة مهينة.
مناسبة هذا الكلام هو التداعيات التي تركتها محاولة اغتيال رئيس الوزراء رامي الحمد الله واللواء ماجد فرج ومرافقيهما، ثم الطريقة التي أراد بها البعض إقفال ملف تلك الفضيحة المدوية من خلال قتل الفاعلين في 22/3/2018، وأقصد إلى ذلك مقتل أنس عبد المالك أبو خوصة ومساعده عبد الهادي الأشهب على منوال لي هارفي أوزوالد وجاك روبي في حكاية اغتيال الرئيس جون كينيدي، أو يونس عبد الرحيم والرقيب مخلوف في حادثة اغتيال العقيد عدنان المالكي في سورية. وهذه الطريقة لا تختلف في الشكل أو في المضمون عن الطرائق المافيوزية في عمليات الاغتيال. وحتى تظهر الحقيقة ناصعة تماماً سيبقى هذا هو رأينا. وأبعد من ذلك، فإن الرثاثة السياسية واللغة السياسية السائدة في قطاع عزة اليوم، إنما هي مجرد مناكفات يومية هابطة وغير راقية على الإطلاق. وعلى سبيل المثال فإن السيد إسماعيل الأشقر هدد علناً باعتقال الوزراء وضربهم بـ "الصرامي". فيما لم يتورع إسماعيل رضوان عن القول إن على حكومة الحمدالله، أي حكومة حركة فتح، أن ترحل، والاثنان من قادة حركة حماس. أما محمود الزهار فقد تفوه بكلام مهزوز بعد عملية الاغتيال يعكس الخفة وعدم المسؤولية اللتين اشتهر بهما، فقال: إن حماس لو أرادت لقطعت رامي الحمدالله واللواء ماجد فرج والوفد المرافق، ونجاة الوفد الحكومي دليل، بحسب كلامه، على أن لا صلة لحماس بعملية الاغتيال.
لو أجريت الانتخابات التشريعية اليوم في غزة فإن حماس لن تنال أكثر من 10% من أصوات الناس (عدا أصوات أعضاء حركة حماس أنفسهم)، لأن حماس لم تقدم أي طراز جذاب من السلطة، أو أرقى من الطراز الذي أسسته السلطة الوطنية الفلسطينية على الرغم من الملاحظات الكثيرة، المحقة أحياناً والمفترية في أحيان أخرى. وهذا يبرهن، للمرة المئة، أن حركة حماس ربما يكون لها حضور كحركة سياسية- عقيدية، لكنها غير صالحة البتة للحكم أو لإدارة شؤون الناس ومصالحهم.

هل تنفع الذكرى؟
منذ بداية الحوار الفتحاوي مع حماس طالبت حركة فتح بإعادة الأوضاع في قطاع غزة إلى ما كانت عليه قبل التمرد العسكري في 14/6/2007. ولمزيد من طمأنة حماس اقترحت فتح أن يتم تسليم المقار الأمنية والمعابر إلى طرف عربي ثالث (مصر)، وأن يعقب ذلك إعادة تكوين الأجهزة الأمنية على قواعد مهنية خالصة، فرفضت حماس. وعادت فتح في سنة 2009 إلى تقديم اقتراح ينص على تأليف حكومة اتفاق وطني مؤقتة، أو حكومة تكنوقراط، مهمتها الوحيدة إعادة إعمار قطاع غزة وإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية على أن يُسحب الملف السياسي من يدي السلطة الفلسطينية ويُحال إلى منظمة التحرير الفلسطينية، فرفضت حماس.
وبناء على ذلك الاستعصاء اقترحت مصر تأليف هيئة عليا من فتح وحماس وبقية المنظمات تكون في منزلة "الحكومة المؤقتة" ومهمتها إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية في موعد أقصاه نهاية حزيران 2010، فرفضت حماس. وعلى هذا المنوال فشل اتفاق القاهرة للمصالحة الوطنية في نيسان 2011، ثم اتفاق الدوحة في شباط 2012، فاتفاق القاهرة في 23/4/2014.. وهكذا.
وكان واضحاً تماماً إلا لمن له عينان ولا يرى أو له أذنان ولا يسمع، أن سلوك حماس السياسي، وبالتحديد منذ اتفاق المصالحة في 12/10/2017، يتلخص في ابتداع الشروط تلو الشروط من دون أي غاية سوى تعطيل الوصول إلى الغاية.
توقفت الأمور، منذ قرار حماس حل اللجنة الإدارية في 17/9/2017 عند حدود احتفال التسليم، ثمَّ لم يتمكن أي وزير فلسطيني من الحكومة الشرعية من تسلم مهمات وزارته قط. وكانت حماس، خلافاً لمواقفها المعلنة، ترفض باستمرار تسليم السلطة الشرعية شؤون الأمن والمالية والقضاء والنيابات العامة والسجون، وهذا يعني، فعلياً، أن رئيس الوزراء لا يستطيع أن يأمر شرطياً بتنفيذ أي أمر محدد. وكانت حركة فتح وحركة حماس قد اتفقتا 12/10/2017 على التالي: إلغاء حكومة غزة غير الشرعية، وتمكين الحكومة الشرعية من تولي جميع المهمات المنوطة بها في قطاع غزة، وأن يكون في غزة، مثلما هو قائم في الضفة الغربية، نظام واحد وقانون واحد وأمن واحد. وصار واضحاً، في سياق تطورات الأحوال، أن قرار حماس حل اللجنة الإدارية لقطاع غزة لم يأتِ في نطاق التفاهم الضروري مع حركة فتح، بل في نطاق التفاهم مع مصر بعد هزيمة المراهنة على دولة الخلافة الإسلامية. وكانت حماس قد ظهرت بعد انتخاب محمد مرسي العياط رئيساً لجمهورية مصر العربية في 24/6/2012 كأنها جزء من حركة الأخوان المسلمين، لا كجزء من الحركة الوطنية الفلسطينية. وهذا الأمر جعل إسماعيل هنية يقول 20/7/2012 إن صفحات الخلافة الراشدة قد فُتحت. وبعد خيبات كثيرة اكتشف أن كتاب الخلافة نفسه قد تمزقت صفحاته كلها، فانعطف إلى الكلام على "المصالحة الوطنية"، وقادته خطواته التراجعية إلى التفاهم الأمني والسياسي مع النظام المصري الذي يعادي الأخوان المسلمين بقوة ويزج بهم في سجونه.

الدولة الموقتة خطوة نحو الفيدرالية
إن خطة دونالد ترامب المؤجلة، وربما الفاشلة، جراء مواقف الرئيس محمود عباس الرافضة لها، تتضمن، من بين ما تتضمنه، إقامة "دولة موقتة" على قطاع غزة، وعلى الضفة الغربية من دون المستعمرات اليهودية، ثم يبدأ، بعد إعلان هذه الدولة، التفاوض على القضايا المعلقة. وفي إطار إعلان هذه الدولة يتم بناء "قدس جديدة" عند أطراف مدينة القدس. وهذه القدس الجديدة ستكون عاصمة الدولة الفلسطينية العتيدة، ثم يجري شق طريق حر بين "القدس الجديدة" والقدس القديمة بحيث تكون حرية العبادة مصونة للمسلمين والمسيحيين، وتكون المقدسات تحت إدارة أديانها. وبهذا التصور سيكون قطاع غزة هو قاعدة الدولة الجديدة، على أن ترتبط به الكانتونات المتبقية من الضفة الغربية (Gaza plus). والخطير في هذا التصور أن جاريد كوشنر (صهر ترامب) وجيسون غرينبلات (مبعوثه إلى الشرق الأوسط) نظّما اجتماعاً في البيت الأبيض في 13/3/2018 حضرته 20 دولة بينها مصر والأردن والسعودية والإمارات وقطر والبحرين وعُمان، علاوة على الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة واللجنة الرباعية الدولية. وفي هذا الاجتماع جرى تداول فكرة "دولة غزة". ومع ذلك لم يتردد صلاح البردويل في الإعلان في 19/3/2018 أن حركة حماس مستعدة للحوار مع الإدارة الأميركية.
حوار من أجل ماذا؟ من أجل تعديل خطة ترامب؟ أم من أجل التفاهم مع ترامب على خطة (Gaza plus)؟ خصوصاً أن ترامب يعلم أن من المحال أن تنجح أي خطة لتسوية قضية فلسطين من دون وجود طرف فلسطيني مشارك فيها، وهو يحتاج، في سبيل ذلك، إلى طرف آخر غير الرئيس محمود عباس الذي أعلن مراراً رفضه لخطة ترامب، وامتناعه عن استئناف الاتصال بالولايات المتحدة الأميركية، ورفضه لوقف الانتفاضة الشعبية، والسعي من خلال التدويل لنيل الاعتراف العالمي بدولة فلسطين المحتلة، وهذا ما أثار غضب ترامب، فشرع في قطع المساعدات عن السلطة وعن الأونروا وعن الأونيسكو.

فقه التغلب
لنخرج من شرنقة الشعارات الزائفة مثل "مزَّقوا اتفاق أوسلو" و"أوقفوا التنسيق الأمني" و"لنحلَّ السلطة الفلسطينية".. الخ. فاتفاق أوسلو انتهى منذ أكثر من خمس سنوات، والتنسيق الأمني يُستعمل للتشهير وإثارة الريبة، ولا يُقرأ في النطاق السياسي، فالتنسيق الأمني منصوص في اتفاق أوسلو الفارط (المادة الثانية الخاصة بمنع الإرهاب وأعمال العنف)، ومن غير اللائق لمن خاض الانتخابات التشريعية بموجب اتفاق أوسلو، وتسلم السلطة التنفيذية (رئاسة الحكومة) بموجب ذلك الاتفاق أيضاً أن يحتج على بند واحد منه حتى لو كان ذلك البند قبيحاً. ولمن لا يعرف فإن أي شحنة طحين أو مازوت أو اسمنت لا يمكنها أن تمر نحو قطاع غزة أو الضفة الغربية من دون تنسيق أمني. أما الدعوة إلى حل السلطة الفلسطينية فهي لن تؤدي إلى دولة ثنائية القومية (وحبذا ذلك)، بل إلى نظام للفصل العنصري، وهو أسوأ من الوضع الحالي مئات المرات.
الاغتيالات معادية للسياسة، وهي سلوك دنيء ومنحط. وقد عرف قطاع غزة عشرات عمليات الاغتيال منذ ما قبل التمرد الدموي في 14/6/2007 إلى ما بعده.
وكان محمود الزهار اعترف في برنامج "نقطة نظام" الذي بثته محطة "العربية" في 6/7/2007، ثم أعادت مجلة "الحرية" نشره في 15/7/2007 أن حماس بدأت التحضير للسيطرة على قطاع غزة في أيلول 2006، وأنها وضعت خطة للاستيلاء على الأجهزة الأمنية ومقارها، وأنها حفرت أنفاقاً تحت مباني تلك الأجهزة مثل الأمن الوقائي في خان يونس، أي أن حماس لم تكن ترغب، منذ البداية، في الشراكة الوطنية والمسؤولية السياسية مع حركة فتح. وشهد قطاع غزة عدداً من عمليات الاغتيالات التي نالت من كوادر حركة فتح كمحاولة اغتيال العميد أحمد شنيورة (طارق أبو رجب) في 25/8/2004، والصحافي خليل الزبن (2004)، واللواء موسى عرفات (7/9/2005)، واللواء جاد التايه (2006)، والأبناء الثلاثة لبهاء بعلوشة وسائق سيارتهم في 11/12/2006)، وغيرها من العمليات المكشوفة والغامضة كاغتيال خمسة من قادة كتائب عز الدين القسام في غزة في تموز 2008. واتهمت حماس حركة فتح بذلك، ولم يطل الأمر حتى تبيَّن أن إحدى المجموعات السلفية هي التي نفذت عملية الاغتيال تلك.
الاغتيال هو مسلك الفاشلين والخائبين مهما تكن الجهة التي تنفذ الاغتيال. ومحاولة اغتيال رامي الحمدالله واللواء ماجد فرج لا تختلف البتة عن طريقة اليائسين في التعبير عن يأسهم، أو عن طريقة قبائل الزولو في خلافها مع خصومها. وما حدث في غزة إنما هو كيد دموي للتيار الوطني الفلسطيني، وهو يصب الماء، في نهاية المطاف، في طاحونة مَن لا يريد وحدة جناحي فلسطين، أي الضفة الغربية وقطاع غزة، ويخدم مزاعم إسرائيل، أولاً وآخراً، في أن الفلسطينيين لا يستحقون دولة مستقلة، وهم غير قادرين على إدارة شؤونهم بأنفسهم. فمن يتعظ ويرعوي؟