لم يجد بنيامين نتنياهو، في مواجهة الفلسطينيين الشجعان، إلا العودة إلى النبش في التاريخ القريب للعثور على لوائح اتهام ضد القادة المبجلين للشعب الفلسطيني. ونتنياهو، مثل غيره من الصهيونيين، لا يتورع عن الهذيان والكذب، فكثيراً ما كان يتهم ياسر عرفات بالإرهاب كي يبدو أمام العالم  ضحية مسكينة من ضحايا الفلسطينيين المعتدين" وفي 21/10/2015 عاد نتنياهو إلى المعزوفة القديمة المنفَّرة، فاتهم في حطابه أمام المؤتمر الصهيوني في القدس، الحاج أمين الحسيني بأنه هو الذي أقنع الألمان بإبادة اليهود. وما إن تفوه نتنياهو بهذه الترهات حتى استجاب له جيش من الكُتّاب العرب للأسف، واستلوا أقلامهم المخنجرة لتمزيق التاريخ الوطني للمفتي أمين الحسيني الذي يكفيه فخراً أنه مازال يقض مضاجع الصهيونيين حتى اليوم.
إن اتهام الحاج أمين الحسيني بأنه كان المحرِّض على إبادة اليهود في ألمانيا تزوير فظ للوقائع التاريخية الثابتة التي لا ينطلي تزييفها على أحد اليوم. والمصدر الوحيد لهذه الخرافة ظهر في محاكمات النازيين في نورمبرغ سنة 1946؛ فقد زعم ديتر فسلسيني، مساعد أدولف أيخمان، في شهادته أمام المحكمة في 26/7/1946، أن الحاج أمين الحسيني حثَّ الألمان على إفناء اليهود، وأن أيخمان كانت له علاقة وطيدة بالمفتي، وكان يعرض عليه خرائط تحدد أماكن سكن اليهود في أوروبا. وفي ما بعد، في أثناء محاكمة أيخمان نفسه في اسرائيل سنة 1961، غداة اختطافه من الأرجنتين، تبين الكذب الصريح في هذه الشهادة، فقد أنكر أيخمان أي علاقة له بالمفتي، وقال إنه رآه مرة واحدة فقط في حفلة عامة، ولم يكن لديه أي اتصال به في ما بعد. ومع ذلك ما فتئ البعض يردد هذه التهمة بحق الحاج أمين زوراً وتضليلاً. ومن مفارقات هذا الزمان أن المؤرخين اليهود ردوا على نتنياهو، وفندوا مزاعمه، وقالوا إنه، باتهامه الحاج أمين، لا يزوّر الوقائع فحسب، بل يبرئ النازيين من جريمة إبادة اليهود، بينما تبارى عدد من الكتاب العرب في توجيه الاتهام نفسه الى المفتي غير مبالين بالنزاهة العلمية على الإطلاق. وكان الحاج أمين الحسيني رد بنفسه في مذكراته على الذين زعموا أنه تعاون مع النازية وكان شريكاً لها في جرائمها فقال: "لما فشل الإنكليز في إغرائي وجذبي إلى جانبهم، عمدوا الى الشدة والعنف وتحريض المناوئين، والدسائس والمؤامرات، وحاولوا اعتقالي في القدس في 17/7/1937 الأمر الذي اضطرني الى الانتقال الى بيتي في جوار المسجد الاقصى، فحاصرتني القوات الانكليزية ثلاثة أشهر. ولما قررتْ اقتحام الحرم القدسي قررتُ الخروج من بيتي لأتفادى إهراق الدماء، فتسللت خارجاً ووصلت الى لبنان. ولما نشبت الحرب العالمية الثانية طلبت انكلترا من فرنسا المنتدبة على لبنان تسليمي الى قواتها، فاضطررتُ مرغماً الى اللجوء الى العراق. ولما نشبت الثورة في العراق ودخل الانكليز الى بغداد اضطررتُ الى الرحيل الى إيران. فلما احتلتها جيوش الحلفاء، وأعلن الجنرال ويفل جائزة قدرها 25 ألف جنيه استرليني لمن يدل عليّ حياً أو ميتاً، اضطررتُ الى الخروج من ايران خفية واجتياز تركيا وبلاد البلقان الى أن وصلت الى روما، ثم سافرت الى برلين، واعتبرت ألمانيا بلداً صديقاً لأنها لم تكن دولة مستعمرة، ولم يسبق لها أن تعرضت بسوء لأي دولة عربية، ولأن عدو عدوي صديقي. وقد دعوت كافة المخلصين لقضية فلسطين الى التعاون مع ألمانيا لا من أجل ألمانيا، ولا ايماناً بالنازية التي لا أعتنق مبادئها، ولم تخطر لي ببال، بل لأنني كنتُ على يقين بأن ألمانيا لو انتصرت لما بقي للصهيونيين من أثر في فلسطين".

افتراءات وأكاذيب
لم يكتفِ المرجِّفون بشيطنة المفتي في منفاه الألماني، بل تجاوزوا ذلك الى اتهامه بتجنيد مقاتلين من البوسنة والهرسك لمصلحة العمليات الحربية الألمانية؛ وهذه فرية تدحضها الوقائع القاطعة. فعلاقة الحاج أمين الحسيني بالبوسنة والهرسك تعود الى زمن أقدم من وصول النازية الى السلطة في ألمانيا، وبالتحديد الى سنة 1931 حين نظم الحاج أمين "مؤتمر العالم الاسلامي" في القدس الذي حضره وفد كبير من البوسنة والهرسك. وتطورت العلاقات بقوة بين البوسنيين والنضال الفلسطيني، وتقاطر مئات البوسنيين على فلسطين للاقامة وللاشتراك في القتال ضد الصهيونية. وكان سبق ذلك سقوط مملكة يوغوسلافيا في أيدي الألمان في سنة 1941، ما مكّن الصرب من معاودة ارتكاب المجازر ضد مسلمي البوسنة، وحتى ضد المسيحيين الكروات. وكان الصرب يتطلعون آنذاك الى توحيد صربيا الكبرى، ويعملون على طرد غير الصرب منها أكانوا مسيحيين أم مسلمين. وقتل في معمعان عمليات التطهير تلك ما لا يقل عن مئتي ألف نسمة من أهل البوسنة والهرسك.
آنذاك، كان المفتي في روما، فاتصل به طالب بوشناقي يدرس في جامعة روما وأخبره بما جرى في المذبحة. ثم انهمرت اتصالات البوسنيين على الحاج أمين الحسيني، وجاءه وفد من الهرسك طالبين العون والمؤازرة، عند ذلك تحرك المفتي واتصل بموسوليني وبحكومة كرواتيا، وسافر الى سيراييفو، والتقى زعماء البوسنة والهرسك الذين رفعوا إليه اقتراحاتهم لحماية وجودهم. وبناء على هذه الاقتراحات جرى الاتفاق مع الألمان على تجنيد شبان من البوسنة والهرسك لحماية النفوس والأموال والممتلكات، على ألا تُكلف هذه الوحدات أي عمل عسكري خارج حدود بلادها، ولا أي مهمة غير الدفاع عن الأنفس والممتلكات. وبالفعل جرى تشكيل فرقتين هي "فرقة خنجر" و "فرقة كاما" في سنة 1943. والمعروف أن هاتين الفرقتين لم تشاركا في أي عمل عسكري ألماني، خصوصاً ضد اليهود الذين تعرضوا للمجازر على أيدي الكروات والألمان، بل إن كثيرين من مقاتلي الفرقتين انضموا الى المقاومة اليوغوسلافية ضد الاحتلال الألماني في سنة 1944 التي قادها جوزف بروز تيتو والذي اصبح رئيساً لجمهورية يوغوسلافيا الحرة.

بوسنيون في فلسطين
جاء كثيرون من البوسنة والهرسك الى فلسطين للمشاركة في النضال ضد الصهيونيين. وهؤلاء جميعاً تأثروا بالحاج أمين الحسيني الذي ألقى محاضرات عدة في البوسنيين منذ سنة 1943 فصاعداً. وفي فلسطين استشهد عدد غير محدد من اليوغسلاف مثل على بولو باشيش الذي سقط في معركة القسطل الى جانب الشهيد عبد القادر الحسيني. وفي معركة يافا استشهد كامل بودروغ. وفي معركة المالكية استشهد أمين خليلويتش ومحمد راميش وحسن بشيش ومنيب بينو ومصطفى إمامويتش. واستشهد تيودور كونتيش في معارك حارة اليهود في القدس، وسقط في المنشية في يافا 20 شهيداً يوغوسلافياً مرة واحدة.
قصارى الكلام ان شيطنة الفلسطينيين، وفي سياقها شيطنة الحاج أمين الحسيني، سياسة قديمة، وهي عديمة النفع على الاطلاق.لكن عدم النزاهة العلمية ما برحت تعود وتتجدد كلما افترى صهيوني على التاريخ الفلسطيني المعاصر. وللأسف، فإن آذاناً كثيرة عربية ما برحت تصغي للأضاليل الصهيونية، أما العقول فقد ختم الجهل عليها وأطبق.