تحقيق من عدة أجزاء : رامي الحسن

هي قصة اقرب الى الخيال منها الى الواقع، تختصر في طياتها حكاية قوارب الموت طمعاً بحياة أفضل وبحثاً عن مستقبل قد ينتهي أثناء رحلة الموت. هي قصة الشباب الفلسطيني الذي غفل الاعلام عنهم لإنشغاله بتغطية أزمة النزوح السورية الى بلدان الغرب. هي قصة اليأس التي دفعت اللآجئ الفلسطيني الى إنتحال صفة لاجئ سوري علّ العالم يتعاطف معه، بعدما نسي العالم والعرب قضيته.

هو احد الامثلة عن الشباب الفلسطيني الذين تملّكهم اليأس في رحلة بحثهم عن عمل ولو بالحد الادنى للأجور. فحسن ابن مخيم عين الحلوة،  تخرّج من احدى الجامعات اللبنانية منذ العام ٢٠١٣، ومنذ اللحظة الاولى لتخرجه لم يترك باباً الا وطرقه بحثاً عن وظيفة لكن الجواب الوحيد الذي سمعه لمدة عامين "ليس لدينا وظائف شاغرة". سدت جميع السبل في وجه "حسن"، كما العشرات من الشباب الفلسطيني، فراح يعمل في معمل لتصنيع العوادم، وأخذ يدّخر كل ما يجنيه "لرحلة الموت" كما يسميها، وهو الذي أخذ قراره ان لبنان ليس مكاناً يستطيع العيش فيه بعد اليوم.

منذ شهور عدة؛ كان حسن يأمل ان يسافر الى تركيا، فتوجه الى السفارة التركية في بيروت للحصول على تأشيرة سياحية، الا ان طلبه رُفض، فعاود الكرّة وكان جواب السفارة النهائي الا يتعب نفسه بالتقدم لانها لن تمنحه تأشيرة. 

لكن يأس حسن وإصراره على الرحيل، دفعه الى رحلة ثانية هي رحلة البحث عن قوارب الموت التي غادرت ومازالت تغادر الشواطئ اللبنانية. فتوجه الى الشمال اللبناني بحثاً عن مقصده ولم يحالفه الحظ في المرة الاولى، لكن بريق أملٍ لاح في الافق حين ورده اتصال من قريبه في شمال لبنان يدعوه الى ملاقاة بعض المهربين اللبنانيين اللذين يعدون العدة لتسيير احدى قوارب الموت الى اليونان. هرع حسن الى الشمال وكان اللقاء الاول الذي استفسر فيه عن سير "قارب الموت" والوجهة النهائية له؛ وكالعادة كانت تطمينات المهربين ان القارب يعمل على أحسن وجه وان الرحلة بإتجاه اليونان لن تستغرق اكثر من يوم ونصف على أبعد تقدير.

 

رحلة الموت: 

عاد "حسن" الى مخيمه ليشد الرحال نحو المجهول، فودع مخيمه الذي ألفه منذ صغره وتوجه الى الشمال اللبناني. ومع وصوله الى الشمال تلقى اتصال من المهربين يدعوه الى الانتظار وبقية المغامرين في مكان محدد. تجمع "المغامرون" كما يحلو لحسن ان يسميهم حسب الاتفاق مقابل احدى الشواطئ في الشمال، وكان الاتفاق المبدئي مع المهربين يقضي الا يكون على متن القوارب اكثر من عشرين شخصاً في كل قارب، لكن الاتفاق نقض منذ اللحظة الاولى وبدأت اعداد كبيرة من المهاجرين تتجمهر مقابل قاربين خشبيين -هما اقرب الى توابيت متحركة منها الى قوارب- حتى بلغ عددهم ١١٤ شخصاً بينهم نساء واطفال ومن جنسياتٍ مختلفة سورية وفلسطينية ولبنانية. 

حالة من الاعتراض سادت بين المهاجرين؛ لكن المهربين خيّروهم بين البقاء في جحيم لبنان او تحمل رحلة ال ٣٦ ساعة، ولان لا خيار امام هؤلاء قبلوا على مضض. حُمّل القاربان بالمهاجرين، ومع بزوغ ساعات الفجر الاولى بدأت الرحلة الى "المجهول". بداية الرحلة كانت موفقة وذلك لعدم اكتشاف البحرية اللبنانية قوارب الموت، ومع مضي الساعات تحت شمس المتوسط الحارقة تعطل المركب الاول بسبب الوزن الزائد، وما هي الا ساعات قليلة حتى حدثت الكارثة اذ تعطل جهاز ال "gps" (جهاز تحديد الوجهات) وضاع القاربان ومن فيهما في مياه المتوسط.

 مرت الساعات ثقيلة على المهاجرين حتى مضى اليوم الاول والثاني وظن هؤلاء ان لا سبيل لهم الى النجاة خاصة وان الاكل والمياه بدأت تنفذ.  لكن بارقة املٍ لاحت في اليوم الثاني اذ لاح لهؤلاء جزيرة في الافق، ظن من على متن القوارب انها احدى جزر اليونان. وما هي الا دقائق حتى بدأت طوافات عسكرية وخفر سواحل ترصد القوارب، وتدعو من على متن القوارب الى الاقتراب من الجزيرة. 

 

اعتقال وتحقيق وارهاب

مع وصول القوارب التي تقل حسن ورفاقه الى الجزيرة، بدأت الابتسامات للمهاجرين وبدأت المساعدة الفورية لهم، وقدم لهم مجموعة من العسكريين المجهولي الهوية الطعام والشراب والفحوصات الطبية لمن كان يعاني من الجفاف من جراء الرحلة المتعبة. ومع تنفس المهاجرين الصعداء، بدأ هؤلاء بالاستفسار عن مكانهم، فكانت الاجابة "الصدمة" انهم في قبرص التركية،  ورحلة الايام الثلاث لم توصلهم الا الى قاعدة عسكرية بريطانيا على مقربة من العاصمة القبرصية "لارنكا". لكنهم تلقوا وعوداً ان محطتهم هذه لن تطول اكثر من يومين.

وللحفاظ على حياتهم طلب البريطانيون من "حسن" ورفاقه التوجه الى مجمع للنازحين في منطقة "ديكيليا" على مقربة من "لارنكا" حيث ستقدم لهم كافة التسهيلات لمتابعة رحلتهم، لا سيما ان وجهتهم المقبلة هي اليونان.  ظن الجميع ان حُسن الضيافة القبرصية هي لمساعدتهم في رحلتهم، ومع وصولهم الى "ديكيليا" بدأ القيمون على المجمع بوضع السياج الشائك حول "معسكر الاحتجاز" وبدأت الحواجب والشوادر ترفع لعزلهم عن ما يدور حولهم، ومنع الصحافيون من التواصل معهم وبدأ الحكم العسكري البريطاني بحق هؤلاء.

الحكم العسكري طال "حسن" ورفاقه وهم الهاربون من لبنان حيث المخيمات الفلسطينية تحولت الى مراكز احتجاز للفلسطينيين. لكن لبنان ومخيماته كانت ارحم اذ يسمح لك فيها بالاكل والنوم ساعة تشاء، لكن مخيمات الاعتقال البريطاني- القبرصي كانت اشد قساوة اذ انها للأكل والنوم والشراب والاستحمام مواقيت محددة ومن يخالفها يستدعى الى التحقيق.

حالة الهستيريا البريطانية- القبرصية وصلت الى ذروتها مع "حسن" ورفاقه، وصار الامن يستدعي هؤلاء للتحقيق معهم بقضايا ارهاب وبشبهات لا دخل لهم فيها، وتعدى ذلك الى سرقة بعض النقود التي كان يحملها هؤلاء حيث صودرت اموالهم وشقاء السنين راح مهب الريح.

مر ثلاثة عشر يوماً والوعود البريطانية-القبرصية تسقط الواحدة تلو الاخرى، وحالة التململ وصلت بحسن ورفاقه الى التهديد بقتل انفسهم وبلغت الامور ذروتها بحرق الخيم التي لا تقيهم حر صيف ولا برد شتاء، وتحول حسن ورفاقه من لاجئين في لبنان ومطاردين بسبب خروجهم من الاراضي اللبنانية الى معتقلين في قبرص. 

وتستمر رحلة الموت في أجزاء تُتبع