العصبيّات أنواع، مدارس واتجاهات. العصبيَّة الأهم بينها والتي نعتقد أنها على حق هي العصبيَّة الوطنيَّة وبعدها القومية... فلسطين تستحق العصبيَّة الأولى ثم الثانية، لكنها تستحق عصبيَّة أهم وأشد: عصبيَّة الإنحياز إلى العدل والحرية.
لا تصنع العائلات والعشائر والقبائل أوطانًا، إنما على هامش أي صراع مع أي عدو، تصنع عداء داخليا مع آخرين يتقاسمونهم الهوى والرغبة والحصول على أي شيء بأي ثمن.
ولا يصنع التطرف المذهبي والديني وطنًا، بل يوسَّع دائرة العداوة والثأر القائم على استحضار التاريخ وتجاربه القاسية التي باتت هنا وهناك ثوابت مقدّسة تكون حاضرة بقدر ما يستحكم العداء وبقدر ما يتعمّق ويوغل في الذاكرة التي تستقي معارفها وأمنياتها وأحلام غدها من خلال انحيازٍ للأثر غير المناسب وبما لا يليق بالإنسانية وحيثياتها وضرورات انتسابها للغد الأفضل.
أقصى ما يمكن أن ينتجه التطرف سلطة استبداد تقوم على جغرافيا معينة يتمُّ فوقها من قوانين وشرائع وقيمَ تفرضُ بواسطة إجراءات وتعاليم صارمة لا مجال فيها للجدال والإختيار والرفض.
وفوق ذلك فقد علمتنا التجارب التاريخية أن مصير كلّ متجبِّر ومستبد مهما عظم شأنه هو التآكل بعد قوة والتشرذم بعد توحّد قائم على تبادل المصالح والمنافع على حساب الناس الذين لا حول لهم ولا قوة.
وعلمتنا التجارب أن الناس تنقاد وراء هكذا سلطة لفترة من الزمن، لكنها بعد ذلك تنفر وتبتعد، لأن أصل فكرة التطرف لا تحترم البعد الوطني وخصوصيات الآخرين، بل جل ما يهم تلك السلطة هو إقامة نموذج الحكم وفق قناعات ايديولوجية لا صلة لها بالغد والمستقبل، بل ترسيخ فكرة الطاعة والرضوخ بين العامة.
حتى إن جزءًا من هذه الجماعات تقبل الخيار الديموقراطي إلى أن تصبح في السلطة، فتبدأ ببسط معتقداتها وتعاليمها اعتقادًا منها بأن اختيار الناس لها تفويض شامل لفرض تلك المعتقدات. فيما همّ الناس هو الإهتمام بالشأن الحياتي لها بصرف النظر عما يعتقد أهل السلطة المنتخبة.
من جانب آخر لا يمكن الإقرار لجماعة أو جماعات تعتمد العنف والقتل وفرض الشريعة الدينية أو بحقها في الحكم للسبب ذاته الذي تعتمده وسيلة للتغيير، ولأن هذه الجماعات لا تتورّع عن فعل أي شيء في سبيل تحقيق مآربها بما في ذلك تدمير البلد- أو البلاد- دون أي رادع أو وازع أو شعور بالذنب، فهي تعتقد أنها تحمل التكليف الشرعي لفرض معتقدها. ألناس في شريعتهم- كل الناس- هم مجر خدم للفكرة التي يجاهد في سبيلها هؤلاء، بحيث لا أهمية لمستقبل الأجيال في خارطة الإمارة- أو الدولة التي يقوم أو سيقوم فوقها حكم باسم الله أو تماشيًا مع تعاليمه.
معادلتنا تقول: لا يكفي أن يكون الحقَّ إلى جانبك، فالأهم هو كيفية التعبير عنه والوصول إليه... لذلك تقول ثقافتنا: لا يمكن ان نقلّد الصهاينة بسلوكهم وسياساتهم الإجرامية.
لذلك نسأل: ما الفرق بين ما تقوم به العصابات الصهيونية في فلسطين وبين ما يقوم به المتطرفون؟
الفارق بسيط: فالصهيونية تريد الأرض دون أهلها- وإن كان لا بد من وجود آخرين فلكي يكونوا أيادٍ عاملة فوق أرض لا يملكون فيها أدنى الحقوق الوطنية. أما ما يريده المتطرفون فهو الأرض كاداة تقوم عليها سلطة. والأهم هنا هو فكرة ترويض الناس والسيطرة على إراداتهم وبالتالي استخدامهم وقودًا للسلطة ومنفذين مخلصين لكل ما تنطق به أو تعلن تشريعه من تعليم وأوامر وقيم.
نعلم أن الصهيونية تستقي معارفها وآدابها السياسية والأيديولوجية من التلمود- إيمانًا وخططا قيد التنفيذ. لكننا نعلم أيضا أن ما يجمع في كيان العدو هو ما يفرّق بيننا في المحيطين العربي والإسلامي.
المشروع الصهيوني المتنسب للمشروع الأميركي والمتحالف معه يمتلك الحوافز المادية والمعنوية والغطاء الإستراتيجي الذي يحمي مشاريعه العدوانية والتوسعية كافة. وهو- اي المشروع الصهيوني- يشكّل الإستثمار الأربح للولايات المتحدة الأميركية على صعيد حراسة مصالحها والإنابة عنها في الكثير من الأدوار الملتبسة والتي قد تحرج الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة.
في الوقت الذي تنجح فيه الآلة الدبلوماسية الفلسطينية في إحراج الحكومة الصهيونية برئاسة المتطرف بنيامين نتنياهو في العديد من الدول الأوروبية والأميركية اللاتينية وغيرها، وتنجح في عزلها وفي إدانتها- ولو بطريقة غير مباشرة- الدعوى التي أقيمت ضد نتنياهو في بريطانيا والتي حصلت على اكثر من مئة الف توقيع، كذلك اشتراط وضع علامة محددة على منتجات المستوطنات لجهة عدم شرعيتها وعدم السماح بتسويقها في دول الإتحاد الأوروبي، إضافة إلى رفع العلم الفلسطيني في الأمم المتحدة إلى جانب أعلام دول العالم- في هذا الوقت بالذات تصل الغطرسة الصهيونية إلى حدها الأقصى في التعامل مع أبناء الشعب الفلسطيني في القدس والضفة لجهة تشريع استباحة دمائهم لأي سبب قد يناسب مطلق النار الصهيوني، وفي الوقت الذي تصل فيه هجمة غلاة التطرف الصهيوني- بينهم وزراء ونواب في الكنيست الإسرائيلي- على المسجد الأقصى وتدنيسه وتكريس الحضور الصهيوني فيه بحراسة جيش الإحتلال وشرطته.
ما تشهده الساحة الدولية الآن من انشغال بمعالجة جيوش اللاجئين الزاحفة باتجاه الدول الأوروبية يصيب كل ذي غيرة على امتنا وحالها بالخجل والعار. إذ إن هذا الزحف يعني وصول الناس إلى اليأس والمغامرة بكل شيء مقابل الشعور بالأمان وضمان مستقبل أكيد وناجز والإبتعاد عن بؤر التطرف والإملاء والحساب الدنيوي الذي ينفذ باسم أناس نصّبوا أنفسهم أوصياء على تعاليم الخالق وأمراء عليهم بكل ما يتصل بحياتهم ومصيرهم.
فأن تغتال البحار حياتهم وأن تأكل الأشواك وأسلاكها المسننة لحمهم وجلودهم خير لهم من البقاء في أرضهم وديارهم وأوطانهم لكي يبتعدوا عن وباء الإستبداد والتطرف فإن ذلك يشكل العِبرة الأشد لأولياء أعتقدوا ودون وجه حق أنهم يطبقون الإسلام وشريعة الله بحق الذين تشهد خطاهم وأقدامهم العارية أنهم أبرياء منهم ولا يريدون العيش في ظل حكمهم الجائر والجاهل.
إن وباء التطرف هو الهدية الأمثل للصهاينة بكل ما تعني الكلمة. فمهما كانت إجراءات المستعمرين قاسية وايا تمادى إجرامهم فإن معادلة الإجرام بتجلياتها وطرق تنفيذها والأعداد التي تستهدفها تطغى بكل تأكيد على ما يقوم به الصهاينة بحق المواطنين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.
والمتطرفون يشكلون المظلة- مظلة طغيان الحدث والإهتمام على حساب فلسطين وقضيتها. وذات القدر يمعنون في إضعاف الأمة وتمزيق نسيجها الإجتماعي والإنساني، والأهم من ذلك تغييب فكرة الوطن والإنتماء للأرض والبيئة والعقد الإجتماعي الرابط بين أهل البلد والكيان الواحد. الغرباء الذين لا ينتمون إلى الأرض والمجتمع ولا تربط بينهم وبين أهل الأرض أية روابط أو صلات، مسلحين بالكثير من النقمة والحقد والتجرد من اية ضوابط قيمية أو إنسانية بالإضافة إلى الجشع الغرائزي الجسدي والمادي الذي تؤمنه لهم سلطة امراء المؤمنين والمتسلطين على الأرض.
إن هؤلاء يشبهون المستوطنين سلوكا وثقافة وتجاوزًا لكل قيمة أو قانون أو عُرف. وللأسف يزيدونهم بشاعة وقساوة كونهم يفتكون دون رحمة ويبيدون البشر دون اعتبار ويدمرون المعالم والمنازل وكل أثر يمكن أن تقوم عليه حياة الناس من غير المنتمين إلى حالتهم الوبائية.
ورغم كل ما سبق ينبغي تكثيف الدراسات النفسية الناتجة عن المنشأ الإجتماعي والبيئة التي تنتج مثل هذه العقول الممعنة في الخَدر والضياع والذهاب بعيدًا في مشروع إعدام نفسها والثأر من الحياة. وقبل كل ذلك ينبغي أن يعرف هؤلاء أن لا مكان لهم في المستقبل ولا دولة لهم تقوم ولا أمان لأي فرد مارس الظلم وارتكب الجرائم بحق الإنسان الذي لا ذنب له سوى مصادفة وجوده في المكان الذي تصله بنادق وفؤوس القتلة منهم.
ثمة رجال دين ومدارس ومناهج ثقافية تنتج التطرف وتفتي بالقتل والسبي والسطو دون رحمة. تمامًا كما يفتي حاخامات المستوطنين وكما تربي وتعلّم مناهجهم الثقافية التلاميذ والأتباع.
يجب علينا ان نفضح هؤلاء دون هوادة أو تردد لأن المشروع الصهيوني لا يُهزم إلا حين تكون ساحات بلادنا آمنة ونقية ومغلفة بوشاح الرحمة والمحبة فيما بيننا. هؤلاء خدم المشروع الصهيوني دون شك أو ريب.