بقلم/ محمد سرور

آري شيرابي – الضابط الإسرائيلي المتقاعد في وحدة ما يسمى "مطاردة الإرهابيين" عرض في معهد لندن للعلوم الإقتصادية في سبيل حصوله على الدكتوراه في العلوم النفسية كلمات موجهة من طفل يهودي عمره 9 سنوات الى طفل فلسطيني أسمه محمود. قال الطفل الصهيوني للطفل الفلسطيني محمود: اسألك عن شيء لا أفهمه فهل تجيبني؟ -

لماذا نبدو دائما بمظهر حسن وجميل... وأنتم تبدون سود البشرة وبشعين ولكم رائحة؟ لماذا عندما أكون خارج البيت وأشم رائحة كريهة ألتفت دائما وأرى أنها من واحد منكم يمر بقربي؟

ما سبق هو تعبير عن تجاوز عميق ومكثف للطغيان العنصري على الثقافة الصهيونية إلى طمس تاريخي وإنساني لأصل المعاناة التي يرزح تحتها الإنسان الفلسطيني وصولا إلى إسقاط عار الفقر على الضحية دونما شعور بندم أو وخز ضمير إنساني. وما سبق يعفينا من السؤال عن سبب التمادي الصهيوني باستهداف الحدود الدنيا من حياة ومصير الإنسان الفلسطيني. لم يعد من مجال أمامنا لسؤال عن الأعمال الإستيطانية، التي هي جرائم موصوفة  ولا عن الجدار بصفته أداة عزل عنصري ولا عن أعمال القتل والإعتقال التي يتعرَّض لها الإنسان الفلسطيني.

لكن ما سبق أيضًا يجعلنا نرى حجم الإنكشاف الأخلاقي- القانوني أمام العالم أجمع- باستثناء الولايات المتحدة الأميركية طبعًا وألمانيا الإتحادية جزئيّا، حيث لكل منهما مبرراته السياسية والأخلاقية. وما الإعتراف الدولي المتدحرج وغير المسبوق بالدولة الفلسطينية التعبير العميق عن ضيق أصاب ضمائر وأخلاق الكثير من قادة الدول وبرلماناتها جراء سياسات إسرائيلية تبرر لنفسها ما لا يُبرَّر لأية دولة في العالم من إنكار فظيع لحقوق الشعب الفلسطيني والعربي استطرادًا.

عندما يفعّل الصهاينة حاسة الشمِّ لديهم ويدركون قذارة رائحتهم في هذا العالم نستطيع أن نتفاءل بإمكانية التقدّم نحو تسوية تاريخية معهم نعيش على هديها وفق قواعد وضوابط إنسانية عالية ودائمة.

فعالية السياسة الفلسطينية:

الرئيس الفلسطيني ومعه منظمة التحرير والسلطة الوطنية ليس ساحرًا ولا يمتلك قوة عجائبية على الإقناع، فالسيد الرئيس يحمل معه التصريحات الصادرة عن قادة الكيان الصهيوني مترافقة مع الممارسات اليومية بحق الأرض والإنسان الفلسطينيين كونهما كافيين لأكثر من الإدانة وأبعد من الإعتراف بالدولة الفلسطينية الموعودة.

تفكك عقد الإئتلاف الذي رئسه نتنياهو، والذي اعتبره الكثير من المحللين باق إلى أجل غير مسمى، هو نتيجه عزلة دولية غير مسبوقة للكيان الصهيوني بسبب التعالي الذي اتسم به الطاقم الحكومي الإسرائيلي في مخاطبته للعالم، وبسبب الإهانات الخارجة على أية أصول بروتوكولية تحكم علاقات الدول وأدبيات السياسة المفترض صياغتها في اللغة الساسية، وبذات الوقت سببها قوة وحرفية الأداء الفلسطيني- من خلال سياسة مُحكمة طبّقها الرئيس محمود عباس وطاقمه الحكومي على طول مدة ولايته الرئاسية، لجهة التزام العمل الدبلوماسي وسحب الذرائع وبناء سلطة مركزية قوية وفاعلة، قابلها استهتار صهيوني بكل الحقوق والقوانين والأعراف الدولية والإنسانية. لكن القيادة الإسرائيلية كعادتها أرادت هذا الانجاز وسيلة لحماية احتلالها ومصالها على حساب الشعب الفلسطيني، وهو ما اجاب عليه الرئيس ابو مازن بأن على الاحتلال أن يدفع ثمن احتلاله، أي أن يكون وجوده على الارض الفلسطينية مكلفا وملزما له على اعادة حساباته بهذا الشأن، وعلى قاعدة كسر المعادلة الاسرائيلية المستمرة بأن حكومات الاحتلال تفاوض من أجل التفاوض.

قوة عدالة القضية الفلسطينية ووضع الأوراق بين أيدي محامين بارعين هذه المرة ألزم العالم على التجاوب مع المطالب والتوجهات الفلسطينية، وحشر إسرائيل في زاوية ما جنته خلال عقود طويلة من احتلالها ومن ممارساتها الإجرامية المتمادية، لدرجة أن كلمات نتنياهو خلال هجومه على الإتحاد الاوروبي عن المحرقة وعن التحالف مع الاوروبيين لمحاربة الاسلام المتطرف لم تلق آذانا صاغية، وكأن وزراء حكومة الاحتلال نسوا أن مستشفيات كيانهم تعج بالمتطرفين الذين يعالجون فيها جراء الحرب السورية، ونسوا أن وحكومتهم أصل البلاء في استشراء حالة التطرف والعنصرية.  

غالبية الصحفيين الإسرائيليين حمّلوا حكومتهم المسؤولية عن النقمة الدولية المتمادية ضد إسرائيل. فيما اعتمدت حكومة نتنياهو- خاصة على لسان وزير الخارجية لبيرمان- الهجوم على كل منتقد لأداء الحكومة الإسرائيلية في مجالات الإستيطان والإجرام بحق الإنسان بلغة خارجة على ادبيات وأخلاق وأصول المخاطبة السياسية في العالم.

زعيم حزب إسرائيل بيتنا- المهاجر إلى فلسطين المحتلة في ثمانينات القرن الماضي، كان لسان حال نتنياهو في المواقف وردود الأفعال ضد الزعماء الدوليين- خاصة الأوروبيين منهم- فيما الحركات الإستيطانية ذات الثقافة الأيديولوجية كانت السقف الروحي لزعيم الليكود ورئيس حكومة الإحتلال.

مراكز دراسات ومحللون إستراتيجيون صهاينة اعتبروا أن الكيان الصهيوني سوف ينعم بتفوق كاسح على الدول العربية مجتمعة خلال الخمسين عامًا القادمة بسبب الإنفجار البنيوي الذي أصاب العديد من الكيانات العربية وما يحصل من تناحر إجرامي يفوق الوصف والتصوّر، ولأن كلفة إعادة بناء ما أنتجته الكارثة من دمار شامل تحتاج لأكثر من عقود من الزمن.

لم يتصوّر قادة الكيان الصهيوني أن القضية الفلسطينية باستطاعتها الحضور وفرض موقعها في الذاكرة الدولية المنشغلة بما يحصل حول فلسطين. كذلك لم يتصوّر هؤلاء أن بإمكان اي زعيم أوروبي العصيان على سطوة الخطابين الأميركي والإسرائيلي في ظروف تتيح للأوروبيين المناورة وإحالة مسألة الإهتمام إلى اولوية أخرى أكثر حيوية وإنتاجية- لجهة المصالح والحصاد السريع- اقصد أولوية الإهتمام بالصراع المحتدم في المنطقة.

الرئيس النمساوي هاينز فيشر في تصريح له أواخر العام المنصرم أكد على وجوب أن يبقى حل الدولتين على قيد الحياة. واعتبر ردود الفعل الاسرائيلية حيال السياسة الاوروبية تعبيراً عن القلق الاسرائيلي. هذه السياسة- حسب الرئيس فيشر- سوف تزداد حدة كلما استأنفت اسرائيل سياستها الاستيطانية، فبذلك  تمنح اوروبا لنفسها ثقلا اكبر لجعل اسرائيل تعيد التفكير في سياستها الاستيطانية اللامحدودة في القدس. الإعتراف المبدئي للبرلمان الأوروبي وصفته الأوساط السياسية في إسرائيل بالتسونامي وبانه نقطة تحوّل في الصراع. فيما اعتبرت اوساط سياسية أخرى أن إسرائيل تواجه هذه الأيام هجوما سياسا غير مسبوق بحجمه. فيما قال معلق اذاعة الجيش الإسرائيلي: إن إسرائيل تبدو عاجزة دبلوماسيا في مواجهة اليوم الدراماتيكي والتسونامي السياسي الدولي. أضاف: رغم الفيتو الأميركي في مجلس الأمن... الخطوة تعتبر إنجازا للسلطة الفلسطينية.

تفكك خارطة تحالفات الأمس:

خارطة الأحزاب الصهيونية يسودها الكثير من الغموض والفوضى. وهي إلى الآن لم تتضح معالمها ومسارات تحالفاتها. فالزعيم السابق لشاس ايلي يشاي- الذي ترأسه لمدة 13 عاما- أعلن انسحابه من الحزب اليهودي الشرقي- الذي يحظى بدعم مجلس الحاخامات واعلن عن نيته إنشاء حزب ديني- يميني جديد يعوّل عليه بان يكون أحد اكبر الأحزاب في الإنتخابات المقبلة في إسرائيل.

المراقبون أعلنوا أن شاس سوف يتأثر بانسحاب يشاي منه، وأن الحزب سوف يكون اكثر اعتدالا بزعامة رئيسه الحالي آريه درعي، وان احتمالات انضمام درعي لحكومة يترأسها زعيم حزب العمل إسحق هرتزوغ ممكنة، فيما يؤكد المراقبون حتمية انضمام يشاي إلى حكومة برئاسة نتنياهو.

حزب العمل اعلن في 13 من كانون الأول الماضي تحالفه مع حزب "الحركة" بزعامة رئيسة كاديما السابقة- ووزيرة العدل في حكومة نتنياهو تسيبي ليفني.

آخر استطلاعات للرأي في إسرائيل أشارت إلى أن 53% من الإسرائيليين لا يريدون رؤية نتنياهو على رأس الحكومة المقبلة في إسرائيل، الأمر الذي يشكل صفعة كبيرة لرئيس الحكومة الإسرائيلية، رغم عدم حتمية النتيجة.

ما يقلق نتنياهو حاليا ظهور حزب "إسرائيل بيتنا" بزعامة أفيغدور ليبرمان بمظهر المعتدل الخارج على سلطة نتنياهو، ومثله حزب "كلنا" بزعامة الوزير المنشق عن الليكود موشيه كحلون الذي يحاول تجميل صورته والابتعاد والتخلي عن صقوريته المعتادة ولا ينفي امكانية انضمامه الى حكومة برئاسة حزب العمل.

يقدر المراقبون حصة اليمين المعتدل- اليمين الحالي- من الانتخابات الإسرائيلية بين ال 24- 30 مقعداً، بحيث يكون بيضة القبان لأية حكومة قد تشكل مستقبلا. والامر كذلك بالنسبة الى الحزب الوسطي "يش عتيد" بزعامة وزير المال السابق يئير لبيد- الذي يتوقع حصوله على 10 مقاعد في الكنيست القادم.

الأحزاب العربية الثلاثة  يتوقع أن تحصل على 11 مقعدا، شرط أن تخوض انتخاباتها بقائمة واحدة أو اثنتين. يعتبر المراقبون ان هرتزوغ ونتنياهو لا يهتمون بها، فيما هي على جانب احزاب اليسار الإسرائيلي سوف تكون قوة مانعة لعودة نتنياهو الى السلطة في إسرائيل.

الإستطلاعات الأخيرة اعطت نقطة واحدة لصالح هرتزوغ على نتنياهو، فيما الحزبان يتأرجحان بين التساوي والفرق البسيط بالنقاط، مما يعني أن الشكل القديم للحكومة الإسرائيلية- أيا كانت نتائج الكنيست القادمة، لن يكون بذات القوة والنفوذ الذي كان عليه.

الغريب في شخصية وزير الخارجية الاسرائيلية افيغدور ليبرمان- حسب هآرتس- 24   كانون اول الماضي- قوله في لقاء مغلق في جامعة تل أبيب: من دون اللجوء الى تسوية سياسية فان علاقلتنا بالاتحاد الاوروبي سوف تتدهور، الامر الذي سيلحق ضررا كبيرا بالاقتصاد الاسرائيلي. ان لم نبادر سيضربنا تسونامي سياسي.

يضيف ليبرمان الذي هاجم رئيس الحكومة وبوصف سياسته بالفاشلة: من شان استمرار الجمود في العملية السياسية ان يجر عقوبات اقتصادية كبيرة على اسرائيل... ليس من اجل الفلسطينيين او العرب، بل من اجل اليهود... ان سوق اسرائيل سواء في الاستيراد او التصدير هو السوق الاوروبية.

في المقابل انتقد تحالف هرتزوغ- ليفني الذي يريد تسوية مع الفلسطينيين باي ثمن... يجب ان نسعى الى تسوية اقليمية مع الدول العربية.

فلسطين هي صندوق انتخابات الكنيست القادمة:

الواضح من المشهد الإسرائيلي حتى الآن، بكل مضامينه وتياراته أن فلسطين هي الصندوق الحقيقي للإنتخابات الإسرائيلية والحاضر بقوة في الخارطة المستقبلية لحكومة الإحتلال المقبلة. واذا كانت سياسة الولايات المتحدة تضخ سموم تأجيل الاستحقاق الحل النهائي على قاعدة الدولتين، فإن العالم سئم التسويف والتضليل المعتمد من قبل حكومات الاحتلال وبذات القدر ملَّ التفرّد الأميركي الممسك بملف التسوية لصالح الوقائع التي تفرضها سياسة القرصنة الاستيطانية كل يوم.

سياسة الخيارات المفتوحة التي اعتمدتها القيادة الفلسطينية بواسطة هجمة دبلوماسية مركزة أضعفت من تاثير الولايات المتحدة على القرار الدولي- حتى لو استعملت حق النقض ضد الورقة الفلسطينية التي تحدد السقف الزمني لنهاية المفاوضات بسنتين، ولم تستطع منع التسونامي العالمي من تأييده قيام الدولة الفلسطينية.

لذلك من المجدي حاليا تفعيل المقاومة الشعبية للاحتلال، بصفتها الاداة الأفعل بالتوازي مع الفعل الدبلوماسي لاكمال دائرة الضغط على حكومة الاحتلال القادمة، وبالتالي دفع العدو الى مزيد من الانكشاف والسقوط الاخلاقي الممهد للسقوط السياسي. إن المقاومة الشعبية بشكلها ومضمونها الحضاريين تشكل عاملا حيويا لمزيد من التفكك  والضعف في البنية المتشددة التي تتلخص بكونها عصب المشكلة التي تعترض طريق التسوية، واذ تشكل التعبير الحقيقي الموازي للسياسة الفلسطينية الرسمية فانها تسهم في مزيد من العزلة المرفقة بالضغط الدبلوماسي والقانوني على سلطات الاحتلال.

يجب ان لا ندع الاحتلال يتنفس وخياراته يجب ان تكون فلسطينية النكهة والمسار، خاصة في هذه المرحلة التي تتشكل فيها بنية التحالفات السياسية في اسرائيل. يجب أن تخاض الانتخابات الاسرائيلية على وقع أصوات الحجارة المتدحرجة والهتافات المنادية بالاستقلال والاضرابات والاعتصامات واضواء الشموع.

على منتقدي سياسة الرئيس محمود عباس حاليا أخذ العبرة من مواقف سلطات الاحتلال التي ترى فيه العدو رقم واحد لها. وأخذ العبرة من نتنياهو الذي يعتبر أن ما تواجهه اسرائيل حاليا من عزلة وانتقاد واعتراف بالدولة الفلسطينية إنما هو نتاج حرب يخوضها الرئيس عباس وسلطته الوطنية ضد سياسة حكومته البائسة.

على هؤلاء التكاتف وشدِّ القبضات الى جانب الرئيس، ومنحه القوة اللازمة من التأييد والدعم لاكمال حراكه الفاعل بوجه الوحشية الصهيونية المتنكرة لابسط حقوق الانسان الفلسطيني.

فالذين يسدّدون سهامهم عليه الآن هم في دائرة الشك المفضي الى تلاقي سياستهم مع سياسة الاحتلال التي يهمها اضعافه والنيل من شرعيته ومكانته لتسهيل عملية تطويقه والافلات من مقتضيات الحل المتوجب على اسرائيل الرضوخ لها.

 على هؤلاء أن لا يسهموا في بقاء ثقافة أري شيرابي في مجتمع الاحتلال... اللهم إلا إذا كانت رائحتهم يرضى عنها المحتلون، ولأنهم لا يشبهون الفتية الفلسطينيين الذين يقول أولاد الصهاينة بأن لهم روائح كريهة...

خاص مجلة "القدس"/  العدد السنوي