لم تفاجئ التحولات والتغيرات التي طرأت على الخارطة السياسية في جمهورية تونس مؤخراً والنتائج التي احرزتها الانتخابات الأخيرة من كان يؤمن بقدرة الشعب التونسي وقواه السياسية على اعادة ثورته الى بوصلتها الحقيقية التي تطلعت اليها والتي أطلقها الشعب التونسي رداً على الحالة المأساوية التي خلفتها "حركة النهضة الاسلامية؟؟ منذ لحظة استلامها السلطة باعتبارها الحركة الأكثر تنظيماً واستعداداً في اللحظة التي أنهار فيها النظام وفرار  الرئيس التونسي التي أذنت بسقوط النظام وهذه السيطرة الفجائية لحركة النهضة على مقاليد السلطة والتي كان من المفترض فيها ان تشرك معها كل القوى التي ساهمت بالثورة "الربيع" التي حسمت المعركة مع نظام زين بن علي بل على العكس وكما هو حال حركة الاخوان المسلمين التي استطاعت استلام السلطة في مصر خلفاً بدورها بالسلطة واعتقدت أن ساعتها السياسية قد أزفت لتركيب نظام على هواها وتطلعاتها الاسلامية طبقاً لمبادئ حركة الاخوان المسلمين، والذي يبدو ان السلطة الجديدة "النهضة التونسية" سكرت من كأس الانتصار واعتقدت بدورها ان ساعتها السياسية هي الأخرى قد أزفت لاستلام السلطة في تونس.
الا ان ما حصل في الانتخابات الاخيرة التي جرت في تونس والنتائج التي احرزتها صناديق الاقتراع هناك وتحقيقها نتائج كبيرة جعلت في حركة النهضة تخسر سلطتها بسبب عدم ايمانها بقدرة الشعب التونسي وقواه السياسية الحية على قيامهم بتصحيح المسار لثورتهم والتي من اجلها ثار ضد نظام بن علي وهو الذي تربى وترعرع على ثوابت اجتماعية وسياسية واقتصادية وسمت المجتمع التونسي المرتبط وثيقاً بالدولة العلمانية والمدنية وهما اللذان شكلا طريقة عيش واسلوب ثقافي وسياسي واجتماعي مما جعله في مقدمة صفوف الشعوب العربية الاكثر انفتاحاً ليس على المحيط العربي وحسب بل تعداه الى بناء علاقات وثيقة مع مجتمعات اوروبية وثيقة بحكم العديد من التأثيرات السياسية والثقافية منذ ايام الرئيس الحبيب بورقيبة وامتداداً حتى نظام زين العابدين بن علي الذي حافظ على هذا التراث والتقليد. وهو ما لم تستطع حركة النهضة فهم طبقية ومدى رسوخه في البنية الاجتماعية والفكرية للشعب التونسي.
واضافة الى ذلك فان حركة النهضة خلال الفترة التي تسلمت فيها السلطة ارتكبت اكثر من غلطة وحماقة نتيجة عدم اهتمامها بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية وهي جوانب وطبقاً لتركيبة الشعب التونسي كانت تأتي في المقدمة قبل السياسة وطبيعة السلطة السياسية وحتى اسم الرئيس او المتربع على رأس هرمها ويبدو ان هذه النقاط الاجتماعية والاقتصادية التي اضيفت الى الهم الامني ايضاً والذي كان له دور كبير وان كان لم يكن في المقدمة.
كل هذه الهموم وان كانت بدرجات متفاوتة يبدو انها تحالفت كلها في وجه حركة النهضة وسلطتها الهم الاكثر التصاقاً بالشعب وتطلعاته واهدافه ويبدو انها هي السبب الحقيقي والرئيس لمنطلقات إئتلاف "نداء تونس" الذي تأسس قبل حوالي سنتين بزعامة السيد الباجي قايد السبسي وكان نتيجة ذلك ان حصد هذا التحالف أكثر من 80 نائباً في البرلمان الذي يضم 217 نائباً مقابل 68 نائباً لـ "حركة النهضة" الاسلامية وهذه النتيجة عززتها نتائج أخرى اعتبرت مفاجئة هي بدورها اذ فاز حزب الاتحاد الوطني ب 17 مقعداً وفازت الجبهة الشعبية اليسارية بـ 12 مقعداً وهو ما اعتبر تحولاً مهما وقد فاز كذلك حزب "افاق تونس" بـ 9 مقاعد وهو الذي تأسس على اسس تجعله امتداداً للحركة الاصلاحية واضافة الى ذلك حقق التيار الديمقراطي الذي تأسس منذ عامين فقط تقدماً مهماً اذ فاز بـ 5 مقاعد  وبالمقابل فان حركة "النهضة" الاسلامية وحلفاءها مثل حزب المؤتمر الذي يرأسه المنصف المرزوقي "الرئيس السابق" حصد 20 مقعداً وحزب التكتل من اجل العمل والحريات بزعامة مصطفى بن جعفر رئيس البرلمان وهذان الحزبان اللذان شكلا ثالوث التحالف الرئيس مع حركة النهضة اضافة الى حزب المحبة الذي يتزعمه الهاشمي الحامدي الذي فقد بدوره مكانته في الانتخابات الاخيرة.
وطبقاً للخارطة السياسية الجديدة والمتوقع ان تسفر عن تشكيل إئتلاف جديد يجمع 109 مقعد على الأقل وهو متوقع بسهولة على اعتبار ان الاحزاب اليسارية والليبرالية اتخذت قرارها بالانضمام لهذا التحالف العريض بعدما تَّم التوصل من قبل النخب السياسية التونسية الى ما يمكن ان يكون " الدستور" الجديد والذي ينص على علمانية الدولة والمواطنة وارادة الشعب وسيادة القانون وسلطانه مدعوماً من حيادية القوات المسلَّحة والبقاء خارج اللعبة السياسية يضاف الى ذلك الاتفاق على نظام انتخابي عصري قائم على أساس النسبية وهو ما يعني استطاعة كل القوى والاحزاب الوصول الى البرلمان وبالتالي تمنع تسلط اي حزب أو قوى سياسية وهيمنتها على الخارطة البرلمانية وبالتالي عدم السماح بقيام اي شكل من أشكال الاستبداد السياسي والسيطرة الملحوظة كما حدث مع حركة النهضة وحلفائها وبالتالي قطع الطريق امام اي تجربة مماثلة.
وعلى ضوء ذلك وارتكازاً على التجربة التونسية الهامة والجديرة بالاهتمام والرعاية والتأييد والتي من المتوقع أن تستكمل رحلتها بالانتخابات الرئاسية المفترض أن تأتي انعكاساً للتغيرات البرلمانية الحاصلة.