بقـلم/ صقر أبو فخر

حار كثير من الخبراء والمحللين في تفسير المستوى الهائل للقصف الإسرائيلي الذي انصب على قطاع غزة طوال نحو شهر، وهو قطاع ضيق المساحة (360 ألف كم2)، ومكتظ بمواطنيه (أقل قليلًا من مليونين) بحيث إذا تساقطت حبات التفاح على منازله بدلًا من القذائف لربما مات كثيرون من السكان. إن استشهاد أكثر من 2100 شهيد وإصابة نحو 11 ألف جريح يعادل، في حسابات النسبة والتناسب، 300 ألف قتيل أميركي وأكثر من مليون ونصف المليون جريح، أو مليون ونصف المليون قتيل صيني وأكثر من ستة ملايين جريح. لنتخيل كارثة حلت بالولايات المتحدة الأميركية أو الصين، وراح ضحيتها مثل هذه الأعداد، أما كانت قلوب سكان الأرض تنفطر لهول الكارثة؟ ومع ذلك فلا أحد تحرك جديًا لنجدة سكان قطاع غزة وحمايتهم من العسف الإسرائيلي.
إن تفسير هذا العنف وهذا الحقد وهذه الرغبة في الانتقام والقتل والتدمير إنما يجد جذوره في نظرية الردع الإسرائيلية نفسها. تقول هذه النظرية إن الخصم يجب أن يدرك أنه سيدفع ثمنًا لا يمكن احتماله إذا مسّ الأمن الإسرائيلي، وبهذا الإدراك يمتنع عن المساس بالأمن. وهذه النظرية زرعها دافيد بن غوريون، وكان آخر ممثل لها قبل بنيامين نتنياهو، أريئيل شارون، وهي تقوم، تطبيقيًا، على استغلال التفوق العسكري لتحطيم الخصم كقوة مقاتلة، وإضعاف موقعه السياسي في آن. ويُشتق من نظرية الردع الإسرائيلية "عقيدة الحرب الجامحة" أو "عقيدة الجدار الحديدي" التي صاغها فلاديمير جابوتنسكي والتي تقول إن العرب لن يتوقفوا عن محاولة الهجوم على إسرائيل مرة بعد المرة. لكنهم سيتوقفون عن ذلك حالما يدركون أن مهاجمة إسرائيل بصورة متكررة تشبه عملية عبور جدار حديدي، أي أنها مستحيلة وتحطم الجماجم.

تاريخ من التنكيل
غزة في المخيال العسكري الإسرائيلي مكان لا يجد الإسرائيلي فيه إلاالموت. ففي سنة 1954 أطارت عمليات الفدائيين التي قادها خليل الوزير (أبو جهاد) النوم من عيون المستوطنين. ومنذ ذلك الوقت والاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة لا تتوقف. هذا ما حصل في 14/8/1954، وفي 28/2/1955، وفي حملة سيناء 1956 (العدوان الثلاثي على مصر)، وفي حرب 1967 حين سقط القطاع كله تحت الاحتلال، فواجه أبناء غزة قوات الاحتلال بالعمليات الفدائية المؤلمة، وكان محمد محمود الأسود (غيفارا غزة) مثالًا للشجاعة والتضحية. واستمرت الحال على هذا المنوال حتى اندلاع الانتفاضة الأولى في سنة 1987 والانتفاضة الثانية في سنة 2000، ثم تحرر القطاع في سنة 2005. ومع ذلك لم يتوقف العدوان الإسرائيلي على الإطلاق، فشنت إسرائيل في 25/9/2005 عملية "أول الغيث"، ثم أتبعتها بعملية "سيف جلعاد" في حزيران 2006، ونفذت عمليات "الشتاء الساخن" في 27/2/2008، و"الرصاص المصبوب" في 27/12/2008، و"عمود السحاب" في 14/11/2012، و"الجرف الصامد" في 8/7/2014. والهدف دائمًا هو هو، أي استعادة قدرة الردع، والانتقام من الفصائل المقاتلة وزرع الفوضى، وتدمير أسلحة الفلسطينيين، وتجريدهم من أي عنصر من عناصر القوة.
غير أنّ هيئة الأركان الإسرائيلية فوجئت في عمليتها الهمجية الأخيرة (أي "الجرف الصامد") بتغير قواعد اللعبة. فالمقاومة الفلسطينية تمكنت من نقل المعركة من القطاع إلى داخل إسرائيل، وتبين أن "القبة الحديد" التي "طنطنت" لها إسرائيل كثيرًا في سنة 2009، قليلة الفاعلية، ولا تستطيع أن تشكل مظلة حماية جدية ضد الصواريخ الفلسطينية، وحقق الفلسطينيون نقاطًا إضافية مهمة جدًا كالصمود المدهش؛ فلم يقتحموا سياج الحدود مع مصر مثلًا هربًا من القصف، وكذلك قدموا صنوفًا من التصدي العسكري بجدارة لافتة، وبهذا المعنى "شرشحت" المقاومة فكرة الردع الإسرائيلية كثيرًا، وهو ما أصاب الأركان الإسرائيلية بالسُعار، ولا سيما أن الوضع الذي وجدت إسرائيل نفسها فيه بعد نحو شهر من القتال هو نفسه الوضع الذي كان قائمًا في اليوم الأول من القتال، أي أن إسرائيل لم تحقق أي إنجاز استراتيجي غير القتل والتدمير.

الخيارات الممكنة
أرادت إسرائيل في مفاوضاتها مع الوفد الفلسطيني الموحد في القاهرة أن يوقع الفلسطينيون وثيقة استسلام، وهو ما لن تدركه إسرائيل على الإطلاق، خاصة أنها لم تمتلك أي أوراق حاسمة تتيح لها أن تتفاوض على نزع سلاح الفصائل المقاتلة. ثم إن إسرائيل تتفاوض على واقع متحرك، لأن ما هو موجود اليوم يتغير غدًا (الستاتيكو المتحرك). فالأميركيون يريدون هدوءًا مقابل هدوء. والإسرائيليون يسعون إلى هدوء مقابل نزع سلاح الفلسطينيين في غزة. والفلسطينيون يريدون هدوءًا لقاء رفع الحصار وفتح المعابر وعدم العودة إلى الاغتيالات بالطيران... إلخ. أما الخيارات المعروضة على طاولة اللاعبين فهي التالية:
1- بقاء الأوضاع على ما هي عليه، أي هدنة من دون اتفاق، مع إطلاق يد إسرائيل في شن هجمات متفرقة. وهذا أمر خطير ومنهك للفلسطينيين لأنه يشبه حرب الاستنزاف.
2- التهدئة مقابل التهدئة والعودة إلى اتفاقات سنة 2012، وهذا يعني تبديد كثير من الإنجازات الفلسطينية في سنة 2014.
3- التهدئة مقابل وقف الاعتداءات الإسرائيلية وفك الحصار وفتح المعابر وإعادة إعمار غزة، وتوسيع مدى الصيد البحري وإطلاق سراح الأسرى، وهو أمر ممكن تحقيقه إذا توافر له عاملان: الأول، هو الدعم المصري (وهو غير واضح تمامًا)، والثاني، هو ثبات الوحدة الوطنية الفلسطينية.
إن قوة حركة حماس اليوم، في القاهرة أو في غيرها من عواصم القرار، تكمن في وقوف حركة فتح إلى جانبها أكان ذلك في الموقف السياسي الذي عبر عنه بقوة بيان منظمة التحرير الفلسطينية غداة بدء العدوان، أو في الموقف التفاوضي كما يجري في غرف التفاوض في القاهرة. ولا بديل من ترسيخ هذه الوحدة وتحويلها من "مساكنة" إلى وحدة ثابتة ودائمة.

نزع شرعية إسرائيل
لم تعاقَب إسرائيل البتة على المجازر التي ارتكبتها بحق الشعب الفلسطيني، ولا ننتظر من السياسات الدولية أن تعاقبها. إذًا، لنذهب معًا إلى الهيئات الدولية كي تنال عقابها بنزع الشرعية عن قادتها ومؤسساتها العسكرية والأمنية وجميع المسؤولين عن اتخاذ قرارات الإبادة والتنكيل بالفلسطينيين. ولا بد أن تكون البداية من الدول العربية التي اعترفت علنًا وسرًا بإسرائيل، لأن الاعتراف بشرعية إسرائيل هو إنكار للحق الشرعي الفلسطيني، وأول ما يجب العمل في سبيله هو فضح "العشق السري" بين كثيرين من العرب وإسرائيل، وفك هذه العلاقات ما دام الشعب الفلسطيني تحت النيران الإسرائيلية، وما دامت حقوقه الوطنية لم تتحقق بعد. ومهما يكن الأمر، فالشعب الفلسطيني مثل عملية جز العشب، كلما جززته نبت مجددًا أكثر قوة ونضارة.