بقلم: رفعت شناعة

توقَّف القتال مساء يوم الثلاثاء عندما أعلن الرئيس محمود عباس رأس الشرعية الفلسطينية وقف إطلاق النار ونجاح المبادرة المصرية في تثبيت التهدئة. ويسجَّل للقيادة المصرية أنها تركت الاعلان عن ذلك للقيادة الفلسطينية ولم تبحث عن تصدُّر الحدث، واكتفت بالدور الذي أدته لوقف نزيف الدم الفلسطيني، ووقف القصف والتدمير والقتل الاسرائيلي الذي أباد بشكل كامل ما يقارب الستين أسرة، وحوَّل أحياءً بكاملها إلى اكوام من الدمار والركام. اعتبر الفلسطينيون هذا الاتفاق الأخير الذي قاده الجانب المصري نجاحاً وفوزاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار حجم التعقيدات الميدانية العسكرية والسياسية.

الاحتلال الاسرائيلي بدأ المعركة العسكرية لتحقيق أهداف مرسومة لعلَّ أبرزها الخروج من العزلة السياسية القاسية التي أحاطت به بعد النجاحات السياسية والدبلوماسية الفلسطينية في الامم المتحدة بعد الحصول على دولة عضو مراقب تحت الاحتلال، وبعد اتخاذها مرغمة القرار بوقف جولة المفاوضات الاخيرة ورفض تسليم الدفعة الرابعة من أسرى ما قبل أوسلو، وأيضاً بعد اتساع حملة مقاطعة منتجات المستوطنات الاسرائيلية في أوروبا وغيرها، أضف إليها جريمة حرق الفتى محمد حسين أبو خضير حياً.

أما الهدف الثاني فهو نابع من نجاح الشرعية الفلسطينية في إقناع حركة حماس بطي صفحة الانقسام، والاتفاق على آلية تنفيذ المصالحة الوطنية كما اتفق عليها سابقاً في القاهرة. لذلك أراد نتنياهو أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء بإعادة فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، والعودة إلى الانقسام مجدداً.

أما الهدف الثالث فهو إجهاض حكومة الوفاق الوطني المرفوضة بالمطلق من قبل الاحتلال الاسرائيلي لأنه اعتبرها خطوة متقدمة على طريق تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية وتشكل بوجودها ونجاحها ضربة قاسية للسياسة الاسرائيلية القائمة على إضعاف وتفكيك الجسم الوطني الفلسطيني بكل مكوناته.

من الواضح أن الاحتلال الاسرائيلي في عدوانه لم يستطع ان يحقق أياً من أهدافه المقررة، ولذلك هو لم ينتصر كما يدَّعى إلاَّ إذا أعتبر أنَّ 2200 شهيداً، و10500 جريحاً، وتدمير أحياء بيت حانون والشجاعية ورفح والابراج، وتشريد نصف مليون فلسطيني من بيوتهم دون مأوى، والقيام بقصف المستشفيات والمساجد والمؤسسات والمدارس، أن هذه الجرائم كلها انتصارات لأنها تنسجم مع الايديولوجيا الصهيونية التي تؤمن بالإبادة الجماعية وسفك دماء أعداء الكيان الاسرائيلي.

ورقة القوة الوحيدة التي ساعدته منذ بداية العدوان هي الغطاء الذي منحته الولايات المتحدة وأصدقاؤها لنتنياهو من أجل أن ينهي مهمته بسرعة، وفرض شروطه على الجانب الفلسطيني، واشنطن وشركاؤها ورغم رؤية دماء الاطفال والنساء كانوا يرددون انَّ من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها. ولكن ما إن مرَّ الاسبوع الاول ودخلنا الثاني حتى إنكشفت الجريمة الصهيونية بكل تفاصيلها، وخجل العالم المتحضِّر من نفسه وهو يرى شلال دماء أهلنا ينزف، فثارت ثائرة الشعوب في أميركا الجنوبية أولاً، ثم في أوروبا، ثم الولايات المتحدة نفسها، حيث خرجت مئات الآلاف إلى الشوارع مطالبين بوقف العدوان، ومحاكمة قادة الاحتلال الاسرائيلي.

عاد نتنياهو بجيشه المثُخن  بالهزيمة والخسائر ليعالج تداعيات العدوان الذي استهدف شعبنا في قطاع غزة. عاد ليخوض معركته السياسية مع حلفائه وخصوصا السياسيين الطامعين بالتخلُّص منه ليس لأنه إرتكب جرائم وانما تحت شعارين الأول أنه كان المطلوب منه المزيد من التدمير والقضاء على الخنادق ومن فيها من جهة، ومن جهة أخرى هم يلومونه على التنازلات التي قدمها للفلسطينيين عبر المصريين وخاصة الموافقة على رفع الحصار. وفتح المعابر، وادخال مواد الاغاثة والإعمار، وتوسيع مدى مياه الصيد دون أن يكون ذلك مربوطاً بنزع سلاح المقاومة.

الجانب الفلسطيني الذي خاض معركة ضد العدوان موحَّداً عسكرياً وسياسياً هذه المرة بعكس المرات السابقة، إستطاع أن يحقق انجازاً وطنياً بوجه العدوان المدمّر والهمجي وأيضاً في إطار من التفاهم والوعي والحرص على الشعب الفلسطيني بمقدار الحرص على المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني. إذاً رغم الجراح النازفة، ورغم الدمار والتشرد نقول أننا انتصرنا لأننا لم ننهزم، ولم نساوم، وهذا النصر نابع من المعطيات التالية:

أولاً: إن كافة الاهداف التي رسمها الاحتلال فشلت، والعزلة السياسية والمقاطعة قائمة، وعلى قادة الاحتلال اليوم أن يستعدوا للمحاكمة على جرائمهم.

ثانياً: لقد تمكن الرئيس أبو مازن ومن خلال جهود مكثفة مع الفصائل أن يشكل وفداً فلسطينياً موحداً يشارك فيه إضافة إلى فصائل "م.ت.ف" كل من حركتيّ حماس والجهاد الاسلامي، وهذا ماعَّزز الموقف الفلسطيني الوطني، ووحَّد القرار الفلسطيني في مواجهة العدوان عسكرياً وسياسياً، وتفاوضياً.

ثالثاً: الوفد الفلسطيني الموحَّد أثبت جدارته الوطنية والسياسية، وحرصهُ الكامل على العلاقات الداخلية، وقدرته على الحوار عبر الوفد المصري الشقيق، والتوفيق بين الحرص على أبناء شعبنا وتضحياتهم والقضايا الوطنية من جهة ثانية، وهذا ما جعل الوفد يوافق على وقف إطلاق النار، والعدوان، والقبول بالتهدئة، والاكتفاء بما تم الاتفاق عليه كمرحلة أولى وهو رفع الحصار، وفتح المعابر، وادخال مواد الاغاثة والاعمار ودون إعطاء فرصة للعدو بارتكاب المجازر مجدداً.

رابعاً: إن وجود غرفة عمليات عسكرية موحَّدة تقود المعركة ضد جيش الاحتلال الذي شنَّ هجوماً برياً وبحرياً في الوقت نفسه بيَّن أهمية العمل المشترك عسكرياً في ظل قيادة موحدة سياسياً، كما بيَّنت عملية المواجهة أن كافة الكتائب والأذرع العسكرية الفلسطينية في القطاع شاركت بفاعلية وضمن خطة واحدة، فالجميع على أرض الميدان.

خامساً: لقد جاءت هذه المعركة بكل حيثياتها لتؤكد الحقيقة التي لا يمكن تجاوزها وهي أن كلَّ التصنيفات السابقة والتي كانت تهدف إلى تعميق الشرخ داخل الساحة ثبت بطلانُها، فالشعب الفلسطيني ومقاومته بكل أطيافه وتشكيلاته الحزبية والعسكرية هو في ميدان المعركة عسكرياً وسياسياُ، وليس كما قال البعض سابقاً بهدف الشرخ في الساحة الفلسطينية هناك قسم يقاوم وقسم يساوم، واتضح أن العمق الوطني متجذَّر في مفهوم الجميع، وهذه التجربة العملية في قطاع غزة أثبتت ذلك.

سادساً: بعد تجربة قطاع غزة الأخيرة المكلفة، والتي كان فيها الحوار بين الفصائل عن قرب، وبشكل معَّمق جداً، وبعد النجاح في اتخاذ القرار الموحَّد بما يخدم شعبنا الفلسطيني أصبحنا اليوم أقرب إلى بعضنا، كما أصبحنا اقدر على تجاوز الصعاب والتعقيدات، وتجسَّدت لدى الجميع تجربة العمل المشترك واحترام الرأي الآخر، والبحث عن الحقيقة، واعطاء الأولوية للشعب والوطن وليس للفصيل، وهذه قفزة نوعية في عملية التفاعل الداخلي لصياغة الوحدة الوطنية على أسس وقواعد صلبة تتحمل سخونة الحوارات المطلوبة حول قضايا أشكال المقاومة، وجدوى المفاوضات، ومصير السلطة الوطنية، والتعاطي مع الاحتلال، وتحديد الاسترايتجيات السياسية والعسكرية والأمنية والاجتماعية المطلوبة في تصليب البنيان الوطني.

سابعاً: مع بدء العدوان الاسرائيلي نشطت الاقطاب الاقليمية والدولية في رسم مخططاتها لاستثمار ضحايا العدوان، ومحاولة العبث بالوضع الداخلي الفلسطيني لحرف البوصلة باتجاهات لا تصبُّ في خدمة الشعب الفلسطيني.

والرئيس أبو مازن في جولاته وزياراته ومؤتمراته الصحفية حذَّر من انعكاس التجاذبات العربية والاقليمية على موضوع قطاع غزة وطمأن الجميع بقوله:" لن آخذ قراراً إلاَّ بالتشاور مع الاشقاء العرب، ونحن لم نتدخل في شؤونهم فلماذا يتدخلون في شؤوننا"، ولعلَّ السؤال الابرز بعد طرح النقاط الست السابقة هو:

ما هو المطلوب عملياً حتى نثبت انتصارنا النابع من صمود شعبنا وبسالة مقاومتنا؟

إن الاستثمار الحقيقي للانجاز الوطني الذي تم في قطاع غزة يكون بتصليب الوحدة الوطنية، وبوحدة القرار الفلسطيني، وانهاء كل ما يتعلق بملفات طي  صفحة الانقسام، وتكريس المصالحة الوطنية، وفتح المجال أمام حكومة الوفاق الوطني لتأخذ دورها عملياً في توحيد الوزارت، وتفعيل المؤسسات، ووضع الدراسات، واعداد الملفات المطلوبة. إن حكومة الوفاق الوطني المستهدفة من الاحتلال الاسرائيلي هي المعنية كما هو مرسوم ومتفق عليه بتنفيذ كل ما يتعلق بالاتفاق الأخير من فتح المعابر وادخال وتوزيع مواد الاغاثة، وأيضاً استقبال مواد وشركات إعادة الاعمار وكل ما يتعلق بذلك من تعقيدات. واذا تعاونَّا فلسطينيا لإنجاح حكومة الوفاق نكون قد حققنا أهم إنجاز وطني، ووجَّهنا صفعة لحكومة نتنياهو.

إنَّ هذا الامر يتطلب التعاون من الجميع وخاصة من حركة حماس، وان تتوافر المصداقية الكاملة في هذا المجال حتى لا نعود إلى دائرة الهزيمة ونخسر ثقة شعبنا. يجب التسليم بأن الحكم في قطاع غزة للسلطة الوطنية وحكومة الوفاق الوطني، وهذا يعني عدم وجود أي حكومة أخرى هناك حتى لا تحدث الازدواجية، وتتعطَّل كافة البرامج، وتتوقف كافة المساعدات، وتعود عملية إعادة الاعمار إلى الجمود لأن المجتمع الدولي لا يتعامل مع فصائل وانما مع جهات رسمية معترف بها.

ولعلّ الأكبر خطورة وحساسية في هذا المجال هي التصريحات التي صدرت عن مسؤولين في حركة حماس تشير إلى أنَّ حركة حماس تتصرف وكأنَّها هي صاحبة القرار في قطاع غزة وهذا واضح من تصريح الدكتور محمود الزهار حين قال:" إننا سنبني ميناءنا ونبني مطارنا دون أخذ موافقة أحد، واذا اعتدى أحد على مينائنا سنعتدي على مينائه، وان اعتدى أحدٌ على مطارنا سنعتدي على مطاره". فالدكتور الزهار يستبق نتائج المفاوضات القادمة. كذلك جاء تصريح صالح العاروري من تركيا وهو أحد قياديي حركة حماس، والذي اكد فيه أن حركة حماس هي التي خطفت المستوطنين الثلاثة وقتلتهم، وهذا التصريح فاجأ رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل مما اضطره أن يعترف بذلك ولكنه حصل  دون علمه، ونحن نستغرب لماذا هذا التصريح وفي هذا الوقت بالذات، وهل يخدم الوحدة الوطنية؟ بالتأكيد أن نتنياهو كان مرتاحاً جداً لأنه حصل على ما يبرئه من كل الجرائم التي ارتكبها في الضفة الغربية.

إن باستطاعة حركة حماس أن تؤدي دوراً مهماً ومحورياً إذا ما التزمت واقتنعت بضرورة ترسيخ الوحدة الوطنية احتراماً لشعبنا ولشهدائنا ولجرحانا الذين ضحوا بكل ما يملكون من أجل الوحدة الوطنية وليس من أجل فصيل معيَّن.

إنَّ أهم ما ميَّز هذه الحرب أنها أدخلت الصراع  في المرحلة الجديدة وهي مرحلة المجابهة الشاملة. وهذا ما اكده الرئيس أبو مازن عندما طرح مبادرة غير تقليدية للحل، وأن ما يتم الاتفاق عليه في القاهرة يجب أن يكون مدخلاً لحل سياسي دائم حتى لا يتكرر العداون على شعبنا، وحتى ينعم شعبنا في دولة مستقلة وذات سيادة وعاصمتها القدس الشرقية. وهذا يستوجب أن يكون الجانب الفلسطيني موحداً، وان تتحرك القيادة باتجاه مجلس الأمن، والامم المتحدة والانضمام إلى المؤسسات الدولية والطلب رسمياً من الأمم المتحدة أن تحدد موعداً زمنياً يتم فيه الانسحاب الاسرائيلي من أرضنا.