ليس من قبيل التكرار استعادة أهداف عملية "الجرف الصامد" الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، وإنما من باب استكشاف أبعاد هذه العملية الدامية، واكتشاف مراميها وخواتيمها. وقد بات واضحًا تمامًا أن إسرائيل أرادت بهذه العملية المجنونة تحقيق أربعة أهداف: تقويض المصالحة الوطنية الفلسطينية؛ استعادة قوة الردع؛ الانتقام من حماس بعد مقتل المستوطنين الثلاثة في 30/6/2014؛ زرع الفوضى في المناطق الفلسطينية. وفي سياق هذه العملية اكتشف الإسرائيليون قبل غيرهم عدم فاعلية القبة الحديد في مواجهة صواريخ الفلسطينيين المنطلقة من قطاع غزة، وفشلهم الاستخباري في معرفة قدرات الفصائل الفلسطينية. وأبعد من ذلك، فقد تمكن المقاتلون من نقل المعركة، ولو جزئيًا، من القطاع إلى داخل إسرائيل نفسها، وهذا الأمر يزيد من "شرشحة" قوة الردع في الجيش الإسرائيلي. وما كانت إسرائيل تخشاه، هو أن تصبح عملية اختطاف الجندي جلعاد شاليط طريقة تُحتذى، وهو ما تحقق في غزة تمامًا بعد وقوع جندي إسرائيلي جديد في أيدي المقاتلين. وها هي إسرائيل الآن تريد أن تنتزع من الفصائل الفلسطينية التزامًا بعد الإقدام على مثل هذا العمل، وعدم العودة إلى هذا النهج تحت أي ظرف من الظروف. لكن، هيهات لها أن تفرض مثل هذا الشرط ما دامت قدرتها على الردع تأكلت في كثير من جوانبها.

إن نظرية الردع الإسرائيلية التي صاغها دافيد بن غوريون تعني أن الخصم (أي الفلسطينيون اليوم والعرب سابقًا) يجب أن يدركوا أنهم سيدفعون ثمنًا لا يمكن احتماله في ما لو مسوا الأمن الإسرائيلي؛ وبهذا الإدراك يمتنعون عن المساس بالأمن. وتطبيقيًا تقوم هذه النظرية على استغلال التفوق العسكري لتحطيم الخصم وإضعاف موقعه السياسي. وهذا هو محتوى عقيدة "الحرب الجامحة" المشتقة من نظرية "الجدار الحديدي" التي صاغها فلاديمير جابوتنسكي والتي تقول إن العرب سيحاولون دائمًا مهاجمة إسرائيل، وسيتوقف ذلك عندما يدركون أن الهجوم المتكرر على إسرائيل أشبه بعبور جدار حديدي، فهو مستحيل ويحطم جماجمهم. وعقيدة "الحرب الجامحة" تفسر الإصرار على ارتكاب المجازر كمجزرة الشجاعية في 20/7/2014، والمجازر الأخرى التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في عملية "الرصاص المصبوب" (2008) وعملية "عمود السحاب" (2012).

*  *  *

لم تُعاقَب إسرائيل على مجازرها قط، ولا ننتظر أن تُعاقب على الإطلاق. لكن، إذا لم نستطع أن نعاقبها فيجب عدم السماح بمكافأتها على عدوانها، تمامًا مثلما يفعل بعض الأصوات العنصرية التي راحت تنعق في بر مصر مثل توفيق عكاشة صاحب قناة "الفراعين"، ومثل الكاتبة لميس جابر وغيرهما. ففي مصر اليوم تسود بعض الأوساط، وهي قليلة في أي حال، روح ثأرية لتصفية الحساب مع حركة حماس التي راهنت على أبدية حكم الإخوان المسلمين في مصر. بيد أن هذه المعركة ليست معركة حماس وحدها، بل معركة الفلسطينيين جميعهم. وفي خضم هذه المواجهة الحاسمة نصبح جميعنا حماس ونرفع كلنا معًا راية حركة الجهاد وكتائب شهداء الأقصى وكتائب أبو علي مصطفى وكتائب جهاد جبريل وكتائب المقاومة الوطنية... إلخ. وانطلاقًا من هذه الثوابت حاول الرئيس محمود عباس، منذ اليوم الأول للمعركة، ولأنه يعرف أن المصالحة الوطنية هي الطريدة الأولى لإسرائيل، أن يوقف هذه المقتلة من خلال التهديد بالذهاب إلى محكمة الجنايات الدولية (وهو أمر غير متاح حتى الآن)، والذهاب فعلًا إلى الأمم المتحدة. ولعل لقاءه خالد مشعل في الدوحة في 21/7/2014 كان خطوة واحدة في شوط مليء بالشوك تسير عليه السلطة الفلسطينية في هذه الأيام ويداها مغلولتان. وهو أمر عسير جدًا، أَكان في السياسة أم في المشاعر، أن تتلاطم الرزايا بالشعب الفلسطيني من كل صوب من دون أن يمتلك الفلسطينيون، وبالتحديد السلطة الفلسطينية، الورقة الحاسمة لتدفيع العدو ثمن ما فعله. وهذه الورقة ممزقة اليوم جراء التمزق الفلسطيني نفسه؛ فقطعة منها لدى مصر بسبب الجغرافيا، وقطعة أخرى لدى قطر بسبب السياسة، وقطعة لدى أميركا بسبب العلاقة الوثقى مع إسرائيل. بيد أن القطعة الأهم ما برحت في أيدي الفلسطينيين، أي الوحدة والمقاومة والصمود والتشبث بالأرض.

*  *  *

ما تريده إسرائيل هو "أمن حدودها الجنوبية"، وعدم تحوُّل مصر إلى دولة داعمة للفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، وأن يبقى الجيش المصري خاضعًا للاتفاقات السياسية مع إسرائيل (معاهدة السلام لسنة 1979)، وألا يتصرف كمؤسسة وطنية ذات عقيدة قومية. وهنا بالتحديد يكمن المأخذ القومي على الأداء السياسي المصري في هذا العدوان. فقد كان في الإمكان فتح معبر رفح فورًا منذ اللحظة الأولى لهذه الحرب، وتسليم الجانب الفلسطيني منه إلى حرس الرئاسة الفلسطينية مثلًا كي نتخطى الحساسية الناشبة بين حماس والمؤسسة الأمنية المصرية. وكان من المستهجن حقًا أن تُصدر وزارة الخارجية المصرية بيانًا تتحدث فيه عن "وقف العنف المتبادل"؛ فقد صار العدوان والرد على العدوان "عنفًا متبادلًا" في قاموس الدبلوماسية المصرية. وقد كنا نعيب على الأنظمة العربية القديمة اكتفاءها بالشجب والاستنكار في كل مرة يتعرض فيها الفلسطينيون للمذابح، فإذا بنا نرجو ونتطلع إلى أن تصبح مواقف الأنظمة العربية الجديدة على غرار الأنظمة القديمة. ومصر الآن تستقوي على الفلسطينيين في قطاع غزة بالجغرافيا في الوقت الذي لم تفعل شيئًا ضد الجيش الإسرائيلي الذي قتل أحد عشر جنديًا مصريًا في سيناء في سنة 2012.

إنّ أي حرب تتطلب حساب ثلاثة عناصر: القدرة والأهداف السياسية والتكلفة. أما القدرة فهي متوافرة لدى إسرائيل. وأما الأهداف السياسية فباتت واضحة كالشمس في رابعة الهجيرة. تبقى التكلفة وهي بيت القصيد. وإنّ لمن الضروري تدفيع إسرائيل تكلفة باهظة جراء عدوانها، وهذه التكلفة إنما تُحتسب عسكريًا في أعداد القتلى والجرحى من جنودها بالدرجة الأولى، وسياسيًا في العمل على نزع الشرعية عن إسرائيل باعتبارها دولة إرهاب. ومع الأسف فإنّ اعتراف بعض العرب بشرعية إسرائيل هو إنكار للحق الشرعي الفلسطيني في المقاومة والحرية والتحرير.

*  *  *

في سنة 1948 أُخرج الفلسطينيون من ديارهم وكانت طناجر طبيخهم فوق مواقد نيرانهم ولم ينجدهم أحد إلا القليل من العرب. وفي سنتي 1955 و1956 سُحقوا تحت جنازير الدبابات الإسرائيلية في غزة وخان يونس ولم يتضامن معهم إلا البعض. وفي سنة 1967 فقدوا آخر أرض لهم ولم يسعفهم أحد. وعندما حاولوا أن يعودوا إلى ديارهم بالكفاح المسلح طاردوهم في كل مكان وطردوهم من الأردن في سنة 1970. وفي سنة 1982 شتتوهم في تسع دول ولم يحفظ كراماتهم أحد. وها هو دمهم الآن مسفوح في غزة ولا يشد أزرهم أحد. إسرائيل وحدها تعرف ما تريد وما تستطيع. إنها تريد تحطيم القدرة على البقاء والصمود في غزة، وتدمير إرادة الوحدة والكفاح في الضفة الغربية، تمامًا مثلما تفعل "دولة الخلافة" بمسيحيي الموصل. ومثلما انتصر المسيح الفلسطيني على الموت، ستقوم غزة من تحت الركام بالتأكيد، وستنتصر على الموت الإسرائيلي.

بقـلم/ صقر أبو فخر